النهر
كنت أقابله دائما في الصباح الباكر وهو متجه إلى النهر , وما إن يراني حتى يبادرني بابتسامة تشي بمدى صفاء سريرته ونقاء قلبه ثم يمد يده إلي ويصافحني بحرارة في كل مرة ، وكأننا نلتقي بعد غياب طويل, ثم يمضي وهو يوزع ابتساماته وتحياته على من يقابله إلى أن يستقل قاربه من مرساه على ضفة النهر ثم يغيب بين الضفتين كما يغيب حلم جميل عندما نستيقظ ..
وتبقى ابتسامته ودفء يده في وجداني يؤنساني طول اليوم .
كم مرة أردت أن أستوقفه وأسأله عن سر تلك الابتسامة , لكن حالت دون ذلك أشياء كثيرة , وكم مرة استفزتني تلك الابتسامة وأردت أن أوبخه وأسأله علام تبتسم ؟ وهل هناك مايستحق الابتسام ؟ ..
لكن حيائي كان يمنعني واليوم واتتني الفرصة والتي انتظرتها طويلا , فلقد فاجأني وجوده بجواري في السيارة المتجهة إلى المدينة ، وبنفس الطريقة حياني مما حثني على استنفار طاقاتي كي أعرف السر , واستدرجته فسألته في البداية عن أولاده وأحوالهم , قال لدي ولدان محمد وأحمد ، ولدي بنت هي زينب , وعجبت وقلت أنا لا أعرف لك غير ولد واحد هو أحمد , قال وقد كست وجهه مسحة من الحزن : محمد هو الكبير أقعده المرض منذ اثني عشر عاما ، لذلك لاتعرفه ..
وأخرستني كلماته وتملكني الوجوم ونال الوجع من قلبي ..
قال عندما استشعر ذلك : هون عليك , ثم وضع يده على كتفي في حنو
وقال يبدو أنني ضايقتك .. حاولت الكلام لأعتذر له إلا أن الكلام انحشر في حلقي فلم أستطع أن أتكلم ومر الوقت ببطء قاتل ، قطعه صوت صفير كابح السيارة وسباب السائق لراكب دراجة نارية قطع عليه الطريق فجأة , فالتفت إلي مستغلا ذلك بعدما آذاه ما استشعرته من حرج ، وقال الحمد لله أن نجانا ثم موجها كلامه للسائق لم يكن هناك داع للسباب
قال السائق مبررا سبابه : لقد رأيت ماحدث ثم نظر إلي فهززت رأسي بآلية ..
مرت أيام كثيرة لم أقابله إلا أن ابتسامته لم تزل تشغلني ولم يزل ذلك السؤال عن سر تلك الابتسامة يلح علي ولم أزل أتحين الفرصة لأدرك ذلك السر ..
اليوم وفي الصباح الباكر شاهدته كعادته يسير في دعة ، يوزع الابتسامات ويلقي بالتحيات على كل من يلاقيه .. كما يسير النهر في سكينة ويسر يغمر الضفاف بالخير والنماء وهو في طريقه إلى المصب
لكن لا أحد يدرك فداحة مايكابده هناك في المنبع .
بقلم السيد بدوي السيد
