با..با
-----------------------
قصة قصيرة
------------
نبيل نجار
-----
صوت خربشة مفتاح يجادل قفلاً.
ناغى الطفل بدلع: با..با، وضع اصبعاً في فم ملاك يعاني بزوغ أسنانه.
هرعت الصبية برفرفة فراشة تفتح، تجمدت، أما قلبه فقد تسحب سريعاً للداخل.
الضوء رسام فاشل! غاص في الجسد، ترك جروح ظلال وما أفلح إلا برسم ظل تكسر على الدرجات الخلفية وفردتي حذاء مختلفتين!.
عقدت الأم بسرعة غطاء رأس على الشعر المسترسل تحجبه كغيمة، مطت عنق نعامة: من؟.
اليدان المنفرجتان بوسع الشوق والصوت الذي يغالب اختناقاً، العبرات التي تجاوزت سدود الرجولة وحواجزها: سوسنتي..كبرت!.
الصوت المألوف الغائب، رددته الجدران والزوايا ذات الذاكرة القوية.
ارتخت مفاصلها تحت وطأة المفاجأة، وكما وقعت ناطحة سحاب في ذلك البلد البعيد، انهدمت.
صاحت البنت مفزوعة، وبكى الطفل لصراخها. حملته ريح الهلع داخلاً: هيام ماذا أصابك؟.
ركع إلى جوارها، هزها برفق وهو يردد اسمها.
ـ سوسن..هات ماء. بلل وجهها بكف عانت ارتجاف مقرور ولما أراد فك حجابها ليمسح رقبتها، أمسكت بطرفي الحجاب بحركة غريزية أدهشته فتراجع قليلاً.
في نظراتها تحوم الحيرة والخوف، في العينين تجمدت الدهشة وعدم التصديق جبالاً من ملح. رفعت رأسها كالمستيقظ من حلم مزعج، سحبت طفلها ضمته كأنما تحتمي به.
من حيث التصق على الأرض أطلق ذخيرته من الأسئلة: هل أنت بخير؟ وماذا أصابك؟ ألم تعرفينني؟ ومن هذا؟ـ مشيراً للطفل ـ وأين أحمد؟....؟.
ـ هذا.. ابني، قالتها بصوت متلعثم.
انفجرت جبال الملح أنهاراً، عبرت سهول الصمت المتسائل بالشهقات.
نهض من التصاقه ليجالس كرسياً، في جمجمته طافت حيرة الزمن المخادع، أعاد على سلامياته عبء الغياب، عب بقية كأس الماء ليطلق سؤالاً من أسره: إبنك! كيف؟.
ـ ذقت المر، مذ أخذوك.
انكسرت الرقبة ثانية حاولت دفن الرأس في تراب صدر الطفل، قطيرات الملح المتهاطلة عددت كم بيتاً نظفت، وكم درجاً مسحت، تطامنت الأصابع لتحصي عدد المرات التي تشابكت وتأمرت لتطحن قرقرات أمعاء جائعة أو لتمسح آلاماً لاتملك لها إلا المسح ورفع الدعاء.
ألقى جمجمته المكسوة برقيق جلد بين يدين مرسومتين بالأزرق الممتد، حفر أرض الغرفة بنظراته: "أنتم كنتم سبب صمودي هناك، وجوهكم كانت تشفي ليل الألم الطاحن، نسيت، خدرني الأمل فنسيت أنكم من لحم ودم، صوراً كنتم، ابتسامات، نسيت".
بانكسار عشبة لليل جليدي خرج صوته: طيب، وأحمد؟.
ـ أحمد مع أبي في الدكان. وضعت يدها على كتف أمها المهتز.
ـ أبوك!؟.
سحبته جاذبية السماء كغيمة، اقتلعته كما لو كان قشة، توجه للباب المحافظ على انفراجة دهشته منذ حل هذا الضيف، اقترب من المغسلة نظر إليهم كأنه يستأذن، فتح العذب ليغسل المالح، فقدت المرآة ذاكرتها! عادت عليه بوجه لايتذكره. والماء كان يتسلل من بين الأصابع.