حرمان
قصة قصيرة
.عبدالله عبدالإله باسلامه
—————-
مع شروق الشمس، كنت أراقب بيت عمتي أصيلة المجاور لبيتنا، وأنتظر بشوقٍ صوت شدّ حبل مزلاج الباب الخشبي وهو ينزاح من الداخل، ثم صرير مصراعي النافذة وهما ينفرجان، لتطل عمتي برأسها وتناديني:
" اطلعي يا حنان ".
وقبل أن تكمل كلماتها أكون قد دفعت الباب الخشبي الثقيل بكل قوتي، وطويت بفرحٍ الدرجات الحجرية صعوداً في بضع قفزات؛ فأنا الوحيدة من بين كل البنات التي سمحت لها عمتي أصيلة باللعب مع ابنتها الوحيدة جميلة، التي تمتلك الكثير من اللعب،والعرائس الرائعة لأنها - كما قالت أمي - بنت شهيد! .
تتلقاني عمتي أعلى الدرج، وهي تتهيأ للنزول إلى الوادي لجز العشب، ترفع الشريم فوق رأسي مبتسمة:
"حنان ..العبي بهدوء، وانتبهي كي لا تكسري العرائس ، و….."
أتجاوزها بسرعة، وفي قفزة أكون قد عبرت عتبة الباب، ودخلت الغرفة كي أنضم إلى جميلة.
تباشر جميلة في إخراج العرائس من الحقيبة الحديدية الكبيرة بحذرٍ وهي تهمس لي:
" دلآ دلآ ..يا حنان ..عاد الأميرات راقدات ".
عندما سحبت إحداها، برز جزء من فستان جميلة الوردي الذي ارتدته في العيد الكبير، ذلك الفستان ذو الكشكشة، والذيل الطويل الذي جعلني أبكي طوال يوم العيد، ووعدتني أمي أن تشتري لي مثله، ولم تفِ بوعدها.
رجوت جميلة أن تخرج الفستان من الحقيبة فترددت طويلاً، ثم سحبته من تحت العرائس بحذر، ووضعته بكل زهو بين يدي .. احتويته برفق، ورحت أتامله بشغف، وأتحسس ذيله، وتلك الأوتار الدائرية تحت بطانته… وما إن انشغلت جميلة في ترتيب العرائس حتى غافلتها، وهربت بالفستان إلى بيتنا!… وارتديته بسرعة…
قبل أن أنظر لنفسي في المرآة.. لم أدر ما الذي حدث، فتحت عيني ووجدت نفسي في المستشفى! .
أخبروني أن طائرة العدوان قصفت قريتنا، وحين عدت إلى القرية؛ أرعبتني مشاهد الدمار التي انتشرت في كل مكان، كان كثير من الناس والأطفال قد ماتوا، واختفى العديد من البيوت تحت الأنقاض من بينها بيت عمتي(أصيلة) وجزء من بيتنا …
زادتني نظرات عمتي أصيلة رعباً وخوفاً، ومنظر شعرها المنكوش، وعيناها الجاحظتان،وصوتها المبحوح…
سمعت إحدى النساء تهمس لأمي - التي انفجرت بالبكاء - أنها قضت اليومين الماضيين هائمة على وجهها تبحث عن (جميلة).
ما إن رأتني عمتي حتى صرخت، واندفعت نحوي!
ظننت أنها ستضربني، وأردت أن أعتذر لها، وأخلع الفستان الوردي الذي تمزق وتلطخ بالدم والطين من كل جانب، وتحول ذيله إلى رباط عُلّقت عليه ذراعي المكسورة. حاولت الهروب، والاختباء خلف أمي، لكنها اختطفتني وضمتني إلى حضنها وأخذت تقبلني وتبكي:
"جميلة ..جميلة وين رحت يابنتي؟ وين اختفيتي وتركتيني وحدي؟ جميلة بنتي!"
.
مرت سبع سنوات على تلك الحادثة، ومع شروق شمس كل يوم جديد تكون عمتي أصيلة قد استيقظت؛ لتقف أمام بيتنا تترقب بشغف متى تشد أمي حبل مزلاج الباب الخشبي لينفتح من الداخل، ثم تفتح مصراعي النافذة وتناديها:
" اطلعي يا أصيلة" .