النزول للأعلى
ابراهيم قاسم عيسى/ العراق
ـ الإنجاز الحقيقي والرضا.. هذهِ الأمور وأكثر هي ما يجنيهِ المتواضعُ غالباً، أراكَ متواضعًا والى اللقاء.
بهذهِ الكلمات ودّعني أخي الاكبر في بيتي الجديد والذي تسلّمتهُ مؤخّرًا، كان هذا البيت درجةً من السمو ينالها كُلُّ من يصبحَ مُديرًا لمصنع النسيجِ العام غرب البلاد. لقد ادهشتني تلكَ الكلمات التي انسابت من شفتيهِ بإبداعٍ في الإلقاءِ والمظهر، وشعرتُ ما كان يشعرهُ طلّاب سقراط حين كان يوجههم على خلق الفضيلة من العدم كما لو كان خلاصهم في كلماته.
لقد تأثرتُ كثيرًا بتلكَ العبارات، وكأنهُ على علمٍ بما بحثتُ عنهُ البارحة في متصفحات الانترنت حول ميزات القائد الفنّية وما يجبُ ان يتمتع بهِ من صفات توحي بالعظمة والتعالي امام كادر المصنع، لقد تعلمتُ كيف امشي وكيف اوجّهُ يدي نحو الآلاتِ والأشياء، وكيف اشرب القهوة جالسًا وكيف ارسلُ نظراتَ عدم رضاي في حالِ تقصيرهم، بل كيفَ اصرخُ بهدوء في حالِ مواجهة شيئ لا يُعجبني. لقد انهيتُ صباحًا كتاب بعنوان (مئة خطأ إداري) لئلا اقع في قبضةِ التشخيصِ السيئ كمدير جديد لمصنع ضخم.
لقد كُنتُ منهمكًا طيلة حياتي هذهِ الوظيفة، فما زلتُ اعتقد ان اكبر متعة في حياتي هي العمل، ذلك الجهد الذي يبني العقل والبدن بشكلٍ يُريحُ ضميري دائمًا، وان النجاحات التي حققتها بوظيفتي قد عانقت طموحي في السمو اكثر فأكثر.
لقد كنتُ عكسَ اخي الكبير صاحب تلكَ الكلمات التي اقفُ حائرًا امام فتنتها الآن، فقد قضى الكثير من عُمرهِ في عالم الكُتب والوانها المتعددة، حتى أصبح معزولًا تمامًا عن أي نشاطٍ آخر.
امام كوبِ القهوةِ بعد ذلك اللقاء، تسائلتُ وحدي عمّا يُمكنُ فعلهُ بخطتي تلك امام الكلمات التي اطلقها أخي الأكبر بعناية، فما الذي يُمكنُ فعلهُ في مصنع كُل شيئ فيهِ يسيرُ بتمامهِ ونظامهِ؟ ولولا استقالة المدير السابق بسبب كِبَرِ سنّهِ لما رُشحتُ للمنصبِ اصلًا!
لقد حلّلتُ نصيحته بتأنّي ذلك اليوم، فكرة فكرة، وكلمة كلمة، لقد اقتنعتُ بعد مئات الدقائق من التفكيرِ والتساؤلات والإجابات التي اخلقها:
ـ لمَ التواضع بالأصل..؟ لأنهُ جُزء من غاية كُل انسان حقيقي.
ـ لأي غاية يُريد الأنسان الحقيقي ان يشعر بالرضا الداخلي عن نفسه..؟ لأن يستريح ضميره.
ـ كيف يتحقق الانجاز المُشرّف..؟ عبر ضبطِ ايقاع البدايات الجديدة.
وغيرها من تساؤلات مُهاجِمة وجوابات دفاعيّة.
حالما تبادرت الى ذهني عبارة (البدايات الجديدة)، شعرتُ بالمغامرةِ نحو نفسي فجأة، ودوت برأسي فكرة مُزلزلة غير قابلة للتصديق، فما كان منّي إلّا ان افكّر بالتخلي عن منصبي الجديد بكُلِّ جدّية!
نعم، فمتى يُغامرُ الإنسانِ مُجازفًا لأجلِ قناعاتهِ المجنونةً او شبهِ مجنونة؟ ثمَّ انّي لم اغامر في حياتي لأي شيئ، ولم انجذب الى رغبة خارج النظام القاسي الذي خلقته، وطالما ارغمتُ نفسي على الالتزامِ من اجلِ ما يسمّونهُ بالنجاح، وصار الأمر برمّتهِ عادتي الطبيعيّة.
ولمَ لا اصنعُ حدثًا مختلفًا في حياتي عكس كُلَّ التوقّعات التي قد اكتشفها مسبقًا كُل من يُحيط بي بحُكم معرفتهم الي؟ فمالذي يمنعني من التمرّد ولو لمرّةٍ واحدةٍ في عُمري؟ أ ليسَ أحرى بالإنسانِ ان يغوصَ في نصيحةِ قارئٍ نهم على ألّا يكونَ عُرضةً لتوقّعات الآخرين؟ ثُمَّ انني لم اجربُ ان اعمل بنصيحة انسانيّة صادقة مثل التي قدّمها لي أخي طيلة حياتي، كُنتُ غالبًا ما استمعُ لنفسي فقط فيما يخص العمل وطريقة تعاملي معه.
اضف بأنّني قد اكتفيتُ مادّيًا، وقد ضمنتُ ذلكَ منذُ زمنٍ ليس بالقريب، فقد عملتُ جاهدًا لإكتنازِ ثروة تُكفيني لأن اغامر في جميع تجاهاتي، بما في ذلكَ استقالتي في حالِ رغبتي بذلك أنّى اشاء.
نعم، سأتخلّى عن منصبي الجديد برغبةٍ حُرّةٍ من اختياري المحض ولأولِ مرّة، وسأنتقلُ للعملِ في مصنعٍ صغير جنوب البلد، وسأعملُ هناكَ مديرًا عاديًّا. كنتُ أعلمُ بوجودِ منافسين اقوياء وحسودين في المصنع الكبير، وسيكون لهم هذا الإعلان خبرًا مريحًا ومُنتظرًا، سأدعهم في زنزاناتِ انفسهم المتصارعة تلك، وسأحررُ نفسي من دناءةِ الطمعِ والرغبةِ في الإستعلاء.
كان لوقعِ الخبر حجمًا اكبرُ مما توقّعته بالفعل، فحتّى الصحيفة الرسميّة قد تناولت خبر اعتذاري عن تسنمِ المنصب بدهشة، معنونةً خبر اعتذاري بهذا الشكل: (مدير مصنع النسيج الكبير يعتذر عن تسنّمِ منصبهِ الجديد وسط تساؤلاتٍ لا اجابة عنها)! لقد ازعجتني تلكَ الاتصالات المسعورة من اصدقاءٍ كُثر، يستفسرون عن معنى هذهِ الخطوةُ 'الغبيّة' على حدِّ تعبيرهم، ولم أجب عليهم بأكثر من كلمةِ رغبة، ويا لهُ من مجتمعٍ ناقم، انهم يستهجنونَ الّا أكون محطَّ توقّعاتهم عنّي، بل يزعجهم ان أكونَ انا كما اريد بالضبط، غير آبهينَ بما يزعجني بالفعل، وهو ان اكون كما اريد. لقد ادركتُ مؤخرًّا ان الانسان لا ينبغي لهُ ان يسير بين خطّينِ متوازيين طيلة حياته، بل عليهِ ان ينظر جيّدًا لما بعدهما.
لم يتصل بي أخي للإستفسارِ عمّا أقدمتُ على فعلهِ مؤخرًا، كان عدم تعليقهُ على تركي منصب المدير العام حافزًا لأن أمضي فيما عاهدتُ نفسي لأن أُكمله، هكذا احسستُ تمامًا. لقد حزمتُ امتعةَ عائلتي وسافرنا بعدَ ايامٍ الى الجنوبِ الجديد، وقد استأجرتُ منزلًا صغيرًا للسكنِ به على بُعدِ ميلينِ عن المصنع، كانت المدينة الصغيرة هادئة نسبيّاً، انها من المُدن التي تجمعُ بين الريف والتمدّنِ في ظواهرها، ولم أرَ ما يُثيرُ غُربتي في شوارعها او وجوهِ الناس.
استغربتُ صباحًا عند وصولي الى المصنع من كادرِ العمل، فقد قاموا بتحضيراتِ استقبالٍ لم أشهدها من قبل، و وجدتهم جميعًا مصطفّينَ عندَ المدخل الرئيس للمصنع وينظرون اليَّ بحفاوة، وقتها شعرتُ بحرارةِ الإستقبالِ عند تحيتهم لي واحدًا تلو الآخر معَ تعريفِ انفسهم، لم أشأ بكسرِ تلك الاجواءِ المُفعمةِ بالحُب رغم استغرابي منها وعدمِ مآلفتي لهذهِ المظاهر، شعرتُ بأنهم طيبون، وبالتالي لا يمكنني ان أُحاسبُ أحدًا على لطفهِ وكرمهِ.
اجتمعنا في قاعةِ الاجتماعاتِ فورًا وقُلتُ: انا لستُ مديرًا سوى بالإسمِ، واتمنى ان اعمل معكم في مكانٍ اجتمعنا في قاعةِ الاجتماعاتِ فورًا وقُلتُ: انا لستُ مديرًا سوى بالإسمِ، واتمنى ان اعمل معكم في مكانٍ بهذا المصنعِ كموظفٍ عادي، واتمنى ان تشخّصوا لي اكثر الاقسام ضعفًا لديكم لكي نقوّيهِ معًا.
اكتفيتُ بتلكَ الكلمات وذلك الطلب، وقد اشارَ احدهم الى ضعفًا ما في قسمِ (الجودة والسيطرة النوعيّة)، فوافقتُ بأن اعملَ فيهِ على الفور.
بدأتُ اعمل جاهدًا كما عادتي، ووجّهتُ اعادة خريطة العملِ كُلّها، وتقدمتُ بطلبٍ الى الوزارة في توسعةِ المصنع، وبالفعل، حصلتُ على الموافقة. وبعدَ ستةِ اشهر صارَ معملنا الصغير ينافسُ في انتاجيتهِ المصنع الكبير غرب البلاد، نعم، فهذهِ نتيجة الإنجاز الحقيقي، لقد احتفلنا في ذلك اليوم، وشعرتُ بأنّي قد كسبتُ نفسي بتحقيقي الهدف أو النبؤة التي كُنتُ اتوقعها.
اثناء ذلكَ الإحتفال وتلكَ الضحكات التي تترددُ دائمًا في ذاكرتي؛ رنَّ هاتفي الشخصي من رقمٍ دونَ اسم، أجبتُ عليهِ، ولقد لاحظ الكُلُّ صمتي وشحوبي وسكوني عندها..
قال لي: تثمينًا لما قدّمتهُ مؤخرًا من إنجاز؛ فإنَّ رئيس البلاد قد كلّفكَ بأن تكونَ وزيرًا لوزارةِ الصناعة!