القصة الومضة هي لون أدبي احتل مكانة بين ألوان الأدب المختلفة من قصة قصيرة وخاطرة وقصة طويلة، وهو ليس حديث العهد كما يظن البعض وإنما كتب الومضات كبار الأدباء في العالم منهم كافكا وأرنست هيمنجواي ونجيب محفوظ في مجموعته أحلام فترة النقاهة، لهذا اللون الأدبي قواعد وأسس وشروط معينة ليتحقق له صفة القصة الومضة، من هذه الشروط الاختزال الشديد والتكثيف والإيجاز والمفارقة مع اكتمال شروط القصة من حبكة ومكان وزما، وفن القصة الومضة يحتاج لكاتب متمرس في كتابة القصص وفي فن السرد.
في قصص الأديب سامر المعاني نجد أنه استطاع تحقيق العناصر الفنية في كتابة القصة الومضة من مفارقة وتلميح مع نهايات مدهشة بالإضافة لغرابة الأفكار في كثير من القصص، سنورد هنا بعض النصوص لقراءتها والوقوف أمامها بالنقد والتحليل:
قصة بعنوان
عربي
كان لحمه طريا حين بدأ وكانوا جميعهم يحملون الملح في جيوبهم.
هذه القصة التي تحمل الكثير من المعاني والرسائل في ايجاز شديد جدا، العربي حين بدأ، لم يحدد الكاتب ماذا بدأ أو من أين أو متى بدأ ولكنه بدأ شيئا ما هنا الغموض في البداية يجذبك من الجملة الأولى، لقد بدأ ولحمه طري لا يستطيع الصمود للخدوش والوخزات، فما بالك بحفنات من الملح تمتلئ بها جيوبهم، جيوب من؟ لم يحدد الكاتب هوية أو صفة أو شخص من كانوا يضعون الملح في جيوبهم لينثروه فوق اللحم الطري، لم يخبرنا الكاتب أنهم وضعوا الملح على اللحم الطري بالفعل ليتفسخ ويذوب ولكنه ترك العنان لخيالنا لنكمل القصة وليجعلنا جميعا شهود عيان على ما يحدث.
أهوج
ركض مسرعا أراد أن ينقذ الرجل المسن كي لا يسقط عن الجسر سبب حادثة راح فيها عشرة أنفس.
المفارقة في هذه القصة بين انقاذ الرجل المسن وحادثة راح فيها عشرة أنفس يدفعنا للتساؤل هل استطاع بالفعل انقاذ الرجل المسن، أم انه تسبب بالحادث فقط ولم يتمكن من انجاز مهمته في الانقاذ، ركض مسرعًا تعكس مدى السرعة والقلق، هو يخشى على الرجل المسن من السقوط من فوق الجسر لان هذا معناه الموت لا محالة، لكن ربما لأنه أهوج ومتسرع ولم يحدد خطورة الموقف تسبب في حادث راح ضحيته عشرة أنفس، قد نأخذ القصة بمعناها الواضح وهو أن التسرع أمر غير سليم وكما يقولون في الأمثال الشعبية (إن في العجلة الندامة )ولكن حين يمتزج الخوف بالقلق وبالخطر أحيانا يتشوش الذهن وترتبك الأمور، وتدفعنا هذه المفارقة للولوج لعمق المعنى وقراءة ما بين السطور من اسقاطات ومعانٍ قصدها الكاتب ولم يصرح بها وكل لبيب بالإشارة يفهم، والاشارة هنا للرجل المسن والجسر والحادثة ربما تعيد لأذهاننا أحداثا سياسية مشابهة.
فوبيا
كان يخاف المرتفعات.. مكث عمره في الأغوار
الغور هو المكان المنخفض عن سطح الأرض، وربما للوهلة الأولى لمن يقرأ القصة يجد أنه أمر طبيعي لمن يخاف المرتفعات أن يسكن منطقة منخفضة من الأرض، وكلمة يخاف تعطي انطباع بمدى الارتفاع والعلو، ومكث عمره تثير في ذهن القارئ طول المدة والاستسلام أو مدى الصبر، المطابقة في الجملة ربما تكون في اللفظ فقط لكن المعنى مختلف ، إذا علم القارئ أن من الأغوار التي يشير اليها الكاتب غور الأردن، وهو سهل يقع على امتداد نهر الأردن وتمر به المنطقة الحدودية التي تفصل الأردن عن شمال إسرائيل، وأن إسرائيل تسعى لضم غور الأردن واحتلاله، وأن معظم سكان غور الأردن من الفلسطينيين، هنا القصة تحمل بعدًا آخر ومغزى واشارات كثيرة اترك تفسير مدلولاتها لخيال القارئ.
وهكذا معظم نصوص الكاتب سامر المعاني، يمكن أن نطلق عليها كبسولات سردية، تحمل في جوهرها فكرة يعبر عنها بشكل محكم وبأقل قدر من الكلمات دون تشويش أو تردد والنص بجانب الفكرة يتميز بالعاطفة، النص الجامد وإن كانت فكرته عظيمة لا يحرك القارئ ولذلك نجد نصوص الكاتب سامر المعاني هي مزيج بين الفكرة والعاطفة، ويحاول الكاتب بقدر قليل من الكلمات الاستعانة بصور وتعبيرات خاصة جدا ليصل لهدفه من أسرع الطرق كما في قصة
موعد على شرفة القمر
كان الليل بعيدا جدا حين كانت تبحث عن جلبابها
الجلباب أداه ستر والليل بعيد معنى يصل للقارئ ويحرك عاطفته الشديدة ويثير عقله لتأويلات كثيرة.
وكما في قصة
الحب الأول
كانت تبتسم دوما حين تراه يختبئ في أحداقها، فكلما أرهقتها الدنيا سامرها وأنطق ليلها بالذكريات.
الصور والتعبيرات المجازية في هذه القصة تشير لقدرة الكاتب على تطويع اللغة لإيصال المعنى المراد من النص وأن الفكرة والعاطفة بحاجة للغة منتقاة، (يختبئ في أحداقها، انطق ليلها بالذكريات).
الومضة القصصية أو القصة القصيرة جدا ستظل شكل من أشكال الابداع الأدبي الذي يتطور ويأخذ مكانته في عالمنا العربي من خلال الأدباء والكتاب المتميزين، وومضات سامر المعاني تجذب المتلقي للقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية وتضعه امام إشكالية فك شفرة النص والتعرف على أبعاده والغوص في العمق وكلما توغلنا في الأعماق كلما حلق بنا النص نحو مزيد من التأويلات.