إن الأرض لها لغة واحدة ) للشاعر الفلسطيني د. جمال سلسع
محمد علوش
جهة أخرى للشعر
( إن الأرض لها لغة واحدة ) مجموعة شعرية جديدة للشاعر الفلسطيني د. جمال سلسع ، صدرت عن " دار فضاءات للنشر والتوزيع " في عمان 2015 وتقع المجموعة في145 صفحة من القطع المتوسط ، وتضمن 43 قصيدة ، وفي كل قصيدة منها " تتفجر التجربة الشعرية عنده لتلتقي مع مقومات المرحلة " ، وفيها أيضا انتقال من الخاص إلى العام الوطني ، وتبرز الصور الشعرية التي تقوم على إبراز المعاني المجردة ، والمظاهر الجامدة ، في صورة كائنات حية ، تتحرك وتحس وتتنفس ، ولطالما كان الشاعر يكسبها تفردا وطاقة إيحائية ، وحيوية وحركة ونبضا يتجاوز التشبيهات والإستعارات والكنايات ، ولا يكف الشاعر عن إعادة إنتاج المكان وإعادة تكوينه في قصائده ، فخسارة القدس وحيفا ويافا ، جعلت المدن والقرى الفلسطينية لا تنفك تحفر في ذاكرة الشاعر ، وقلبه ينبض بأسمائها وبياراتها وبحرها وأسوارها ، إنها محاولات الشاعر للارتباط بالأرض من خلال الشعر بعد أن حرمته قسوة الواقع من ملامستها ، حيث يقول الشاعر :
وما طمست سماء طفولتي
ما .. ما نأت عني
رؤى الأمس !
فكيف تناثرت في القلب
مثل حمامةٍ ناحت
تدحرج صوتها وجعاً
يلامس في هموم شموعها حسي ( ص 102 – 103 )
إلى أن يقول الشاعر من جديد في محاولة متكررة للتأكيل على المؤكد الذي يؤكد عليه دوماً :
على قلقي أعنّي يا الهي
يشرب المحتلُّ تاريخي
وكأسُ القدس
بين يديّ مكسورٌ
فكيف على هبوب الشوق
أرفعُ في العلى رأسي ؟
جعلتُ بحبّها محراب قلبي مسكناً
على شمس الحنان مشت
إلى عطش النهار جداولاً
فاضت بأعشاب الندى واليوم أتركها على ظمأٍ
وفي أقفاص عزلتها
تصيح كنكبةٍ أخرى .. ( ص 102 – 103 )
في هذا السياق الشعري والجمالي جاءت معظم قصائده يستحضر سلسلة من التداعيات الصورية التي يستدعي بعضها بعضا ، كما يضفي على بعض قصائده صوراً تشكيلية ، مبنية على تنسيق الجماليات اللغوية سواء كانت صوتية أو تركيبية أو حتى دلالية لجهة توارد الألفاظ المتشابهة الشكل المختلفة الدلالة ، عدا عن التناسق الشكلي والتناسق الإيقاعي.
يمتلك الشاعر جمال سلسع معجمه اللغوي المتميز ، ولديه القدرة على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل والإيحاء الذكي وتشغيل الانزياح والرموز وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء المحفوفة بالدهشة والسلاسة .
جمال سلسع شاعر يكتب قصيدة التفعيلة ، وقد لعب الإيقاع دورا مهما في تنضيد موسيقاه الداخلية من خلال تكراره لبعض الأحرف أو الكلمات ، ومن اختياره ألفاظا رشيقة متناغمة ، كانت تؤدي إلى إحداث سحر صوتي خاص يُحدث مواءمة رائعة بين الشاعر والملتقي.
وكما قال الكاتب أمين دراوشة في مقالة له فان قصائد الشاعر تخلق لأنها منتمية لهذه الأرض الطاهرة ، تولد من جغرافيا فلسطين ، فإذا كان المنفى رمز البرد القارس ، والشعور بالوهن ، فإن استعادة المكان الفلسطيني تمنح الشاعر الدفء.
يؤمن سلسع وكما يتجلى في معظم ما يكتب بأن " شعر المُقاومة " هو عنوان القضية ، وان هذا الشعر خرج من أجل القدس والشمس وطرد الغزاة ، ومن اجل حرية الأرضِ والإنسان ، فما زال الليلُ جاثمٌ في عيونه ، والصباحُ هاربٌ من حدقات الثرى ، فتلتهمُ الشاعرَ الحيرةُ ، ويربكهُ الوقتُ ، وهو ما بين صمت يعشقهُ الليل ، وارتباكٍ يخيفُ الصباح ، تولدُ فينا القصيدة ، وترتقي بنا الكلماتُ والمواقِفُ ، خاصةً لم يعد أحدٌ يعرِفُ لغةَ الزيتونِ ، فلماذا نسقيهِ دمعَ عيونِنا ؟.
يقول الشاعر :
هل ضاع حزني
بين دمع البوصلة ؟
حضن النواح طريقنا
لا رغبةً قد أشعلت فينا الصهيل
فكيف تشتاق الجراح
لشمس هذه المرحلة
ذبح الرصاص هديلها
فتركت نفسي دمعةً ثكلى بأحزان اليمام .. ( ص 121 – 122 )
في شعره ، بقيت القصيدة على شذى المقاومة كما الأمس وربما تفوقت عليها ، لها إيمانُها المطلق بالنصر ، رغمَ متاهةِ المرحلة ، وضبابية المنافي ، يقول الشاعر :
وأنا ألملم من دموع الأرض قمحي
في شظايا الروح
تنهض يقظة التاريخ
فوق صهيلها
درب الجياد . ( ص 125 – 126 )
في هذه المجموعة يعيش الشاعر اللحظة الشعورية والنفسية بكل أبعادها ، ولا يجردها من مدلولاتها العميقة ، فلا يسطح الحدث ولا يعمقه ، ولكن يكشفه ويتعمقه ، ونحس أنه يعيش ما يكتب ، نكتشف انه يعاني كلماته ويتنفسها ، ويبتعد كل الابتعاد عن فرض نفسه عليها ، ويحملها دلالاتها الواعية ، ورغم أنه أخفق أحياناً من الناحية الفنية ، قد يكون للحالة النفسية أهميتها في إثارة الحالة الوجدانية للذات الإنسانية، والنموذجي هنا هو تجسيد ما هو متميز في الإنسان ، وما هو اجتماعي ، وتجاوز الفصل بينهما.
يتميز شعر سلسع في هذه المجموعة وربما في غيرها من المجموعات بالوضوح والشفافية والرقة وتدفق الصور والمعان دون أن ترهق القارئ في فهم المعنى.
القصيدة تبحث دائماً عن تغير الواقع المعاش ، لأنها ترفض الليلَ والهزيمةَ ، ترفضُ الذلَّ والعبودية ، ترسمُ المستقبلَ بوجهٍ مشرقٍ وزيتونٍ شامخٍ ، لذا فإنها تبحثُ عن النصر والهديل أو الصهيلِ ، أو بوتقةَ الوفاءِ والسلام .
يقول الشاعر :
لا تزال الأرض يتعبها اليباب
حطّ في حدقاتها طعم السراب
أتى يدوّخها الخراب ،
فطار من يدها خطا حلمٍ
يسامرُ نجمةً
تهفو لأفراح المنازل
قد آمنت في اسمها
ركضت لتمحو ندامةً
من صدر أرضي
وعلى الشفاه تمور شمس حصادنا
قمحاً وزيتاً
في تراتيل المناجل
فالأرض لملمت الحروف وعلّمتني
كيف أكتب في دمي
فتجددت في الأرض أمواج السنابل .. ( ص 91 – 92 )
تبحثُ عن تجربةِ الشاعر ، وما فيها من دلالات تلامس الشمس ، فعندما يتساءل عن النصرِ ، هلْ هو مخبأٌ في عيونِ الأطفال ؟ أم هو لحظةُ حبٍ فاشلةٍ ، تنتظر على رصيف النسيان ؟ أم هو حلمٌ تكسَّرَ جناحَهُ قبلَ وصولِ القُدسِ ؟
القصيدة لا يمكن أن تكون حيادية وإلاَّ فشلت ، خاصةً وهي مشحونة بكل ألوانِ العشقِ والحبِ والتمرُّدِ والصهيلِ ، فالقصيدة تبوح بدلالاتها الإيحائية الوجدانية التي تفجِّرُ المواقفَ ، وتشعل الخطى ، حيث يقول الشاعر :
لا شيء أرخي الظّل
فوق نحيله
غير الصهيل
مفجراً في الارض نهراً
يرتوي فيه ثراه
لا شيء يبعد
عن هوائي الاغتراب
سوى الحنين
لأبجدية ثورةٍ تلغي الغزاة ( ص 81 – 82 )
جمال سلسع شاعر هادئ ، يبتعد في كتاباته عن الصخب والشعارات الرنانة والخطب " الشعرية " حيث يبتعد عن المباشرة ويحاول أن يرسم بالكلمات ما تبوح به روحه المعذبة ، فيكتب عن أحزان الموجوعين والمحزونين والمحرومين المضطهدين ويحاول أن يكون شاعراً مختلفاً بصوته الشعري الخاص فلا يقلد أحداً ولا يلتزم مدرسةً بعينها ولذلك جاءت معظم قصائد المجموعة متناسقة ومتكاملة وهناك الكثير مما يجمع قصائدها وكأنها قصيدة واحدة كتبت على مراحل مختلفة ولكن فيها وحدة البوح الشعري والصور الشعرية المدهشة وأهم ما يميزها هو بساطتها وتلقائيتها بعيداً عن محاولات اصطناع القصيدة باعتبار أن الشعر تلقائي وعفوي وهذه الصفة هي من أجمل صفات الشعر .
_________________________