كلب أهل الكهف
لم يكن لأحدٍ في القريةِ ، أن يصدق هذا التحول المفاجئ الذي انتابه، فبعدِ حياةٍ قضاها في بحبوحةٍ من العربدةِ مُتسكِّعا ، أصبحَ " مرسي" بينَ عشيةٍ وضُحاها وليّا من الأولياءِ ، تتدلى مسبحتهِ الطويلة الكهرمان فوق كرشهِ ، وعلى شفتيه يتطاير غُبار الأذكار الملتهبة أينما سار، يغشى الدروب والأزقة في غَمرةٍ من الهدوءِ والسّكينةِ ، وهو الذي طالما أرهق نساءها بنظراتهِ المسمومة ، يقذفها بلا تورعٍ أو ملامة ، في صمتٍ أخرس يغمغم بكلماتٍ غير مفهومةٍ ، سريعا يُدير حبات مسبحتهِ في نشوة ووله، يُرسلُ نظراته السّاهدة، وكأنّ الحياة قد نزعت منها ، حيثما مشى تُشيّعه نساء القرية بعباراتِ السّخط ، أهذا الذي كان عربيدا ، كيف أصبحَ بينَ عشيةٍ وضحاها صالحا؟! ، لكنّه على كُلّ حالٍ ظلّ على سمتهِ ، يلوكُ الصّبر في صمتٍ ، كُلّ ما هنالِك ابتسامة باردةً تُشرِق من مُحياه ، وإن كادَ يتميّز من الغيظِ ، بوجهٍ شاحبٍ ، وسِحنةٍ مُكفهرة، يهزّ منكبيه مستهزءا ، يجمحم غير مكترثٍ : الله يسامحكم.
امتلأت البيوت بحكايا الدرويش الجديد ، الذي نَزَعَ عنه متع الدُّنيا وشهوتها ، وانجرفَ في طريقِ الزهدِ والتقوى ، كُلّ شيءٍ يدل على تحولهِ ، هيئته الرّثة ، بؤسه وعوزه الذي فاقَ الحدّ ، جسده الهزيل ، وضعفه البادي ، وهو الذي كان فتاً قوي البنية ، متين العضل ، ها هو ترمقه العيون عن بُعدٍ ، متواضعا ذابل النّضارة ، يائس الوجه ، يشخص بصره في الفضاءِ كالمأخوذِ.
هكذا سارت الأمور معه ، بعد أن هيأ لنفسه مكانا بين جملةِ الصالحين ، الذين تنقاد لهم الأرض بمن عليها طوعا أو كرها ، لا تزال أحاديث العامة عن سيدنا الشيخ " عليش" في عزبةِ السوق ، تتلاعب بخيالهِ ، كيف طارَ الولي الصّالح في الهواءِ ، وكيف مشى فوق ماء الترعة ، وكيف تلاعب عند موتهِ بالنّعشِ وبحملتهِ ، فجاث قرى الزِّمام ، وسط هالاتِ الهتاف وصيحاتِ التكبير ، وعلى وقعِ الزمرِ والطبل ، حتى شهد جنازته المهيبة المأمور وضابط النقطة.
اتخذَ صاحبنا لنفسهِ خلوةً فوق سطحِ دارهِ ، يُردِّد من أورادِ اللّيلِ ما استطاع ، بصوتٍ عذب يترنم ، وفِي قرارةِ نفسه تتلاعب به نشوة الأحلام ، تُجدِّد من ترقّبهِ ، وتحيي من آمالهِ.
لم تخامرهُ خلجة من شكٍّ ، أنّه بعد هنيةٍ ؛ سيصبح من أولئك النّفر الصّالح ، وأنّ أستار الحكمة ، حتما أمام عينيهِ سوف تنسدل ، حينها تتكشّف له مراقي الحُجب ، ويعتلي مراتب المكاشفة ، تلهبه هذه العواطف كلّما تذكرها ، فيهرع نحو كتبهِ القديمة ، يُقلِّبُ فيها ، ليعود مُنتشيا ، فيندفع أكثرَ من ذي قبل ، يُشمِّر عن ساعدِ الجدّ ، ينكبّ على خلوتهِ منقطعا عن الناسِ ، مُكتفيا بحباتِ الذرة المسلوقة ، زادا يتقوّى بهِ ، وخاطرا يطنّ في رأسهِ ، تنبلج على وقعهِ أساريره ، بابتسامةٍ حاسرة يسرح معها خياله ، ويهيج لها قلبه كالطفلِ الغريرِ ، وقد هيمنت عليهِ نوبة النشيج ، فغدا تأتيه الولاية ، ويصبح سيد القرية الهانئ ، ووليها نافذ الكلمة ، عندها تخرس الألسن ، ويؤمّن الجميع على كراماتهِ ، و ينقادوا لسرهِ الباتع ، تهدأ روحه ، في هاتهِ اللحظة يُبعثر نظراته المتبجحة على من يعبرون الطريق أمامه، وفِي وليجة نفسه يقول : إن غدا لناظرهِ قريب .
كان على الولي الجديد أن يختبر نفسه ، ويجرِّب تجليات خلوته ، وأن يُري من حوله خوارقه، هكذا استذله شيطانه ، امسك ذات ليلة مسبحته ، في ساعةٍ قد كست ظلمتها الحقول ، زمزم بصوتٍ مكتوم ، وانفلت من عتبةِ داره ، وقف أمام كوم سباخٍ عند مدخلِ القرية ، وما إن رأت شبحه الكلاب ، حتى جرت نحوه نابحة ، تتلمظّ غيظا ، لحظتئذٍ ، استخف بهِ الهوى فانطلقَ صائحا : كلب أهل الكهف يسلم عليكم..
وما إن انتهى من عباراتهِ ، إلا والكلاب قد مزّقت جلبابه ، وغرزت أنيابها في جسده ، تهادى إلى الأرضِ مغشيا عليهِ، والموت أقرب إليهِ من حبلِ الوريد ، ولولا تدخل " علوان " الخفير لأصبح من الهالكين ، كان المسكين قد سمع أن الكلاب انقادت لأحدِ الأولياء ، فور سماعها تلك العزيمة .