الحلقة السادسة عشرة
شكّل العام 2019 ذروة نشاطي في الكتابة، حيث أنجزتُ عددًا من الكتابات والمؤلفات، أمّا العامل المهم الذي ساعدني في هذا النشاط هو امتناعي عن الترشح للهيئات القيادية في التّنظيم، فتوفرت أمامي مساحة مهمّة من الوقت دفعتني للتفرغ كليًا للكتابة، كما أنّني أنهيتُ دراستي الجامعية ونلتُ شهادة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية، والذي يشرف على هذا البرنامج الدّكتور والقائد مروان البرغوثي، مما ساعدني في التّخفيف من أعباء الدراسة. عدتُ إلى سجن (ريمون) في بدايات شباط من العام 2019، بعد بضعة أشهر أمضيتها في سجن (هدريم)، وهناك أنهيتُ ما تبقى من مواد دراسيّة، وطالعتُ العشرات من الكتب والمراجع والدّورّات في مكتبة سجن (هدريم) الثّريّة بكتبها ومراجعها قياسًا مع السّجون الأخرى.
لكن هذا العام كان عاصفًا في سجن (ريمون)، فبعد أيام من وصولي إلى السّجن استشهد الأسير المناضل فارس بارود، وبعد أيّام أبلغت إدارة السجن نيتها نقل قسم 7 الذي أتواجد به إلى قسم 1، بعد أن قامت بتركيب أجهزة تشويش متطورة في قسم1؛ بهدف منع التواصل الهاتفي من خلال الهواتف المهربة.
رفضت اللّجنة الوطنيّة في السّجن نقل القسم (قسم7)، وهددت باتخاذ خطوات تصعيديّة، وأقدمت الفصائل على حل نفسها في خطوة للضّغط على الإدارة، وهو ما يعني إدخال السّجن في حالة من الفوضى. وفي المقابل اتخذت إدارة السجن خطوات عقابية بعد هذا القرار، كتقليص مدّة الفورة والتّحركات بين الأقسام، ودخل القسم في حالة من التّوتر استمرت حتّى الثامن عشر من آذار، حيث جرى نقل القسم بالقوة إلى قسم1 وفي ذات اليوم تمت عملية إحراق الغرف في قسم1، وهو ما سنأتي عليه في السّياق.
فمنذ بدايات شباط وحتّى الثامن عشر من آذار، شرعتُ في عملية الكتابة رغم التّوترات والضّغوط في القسم، فقد كنّا نمضي معظم وقتنا داخل الغرف، وينبغي استغلال هذا الوقت في عملٍ مفيد يبدد حالة السّأم ويخفّف من حدّة التّوتر.
كما أنّني كنتُ متشوقًا لاستئناف الكتابة بعد انقطاع دام بضعة أشهر أثناء وجودي في (هدريم)، وانهماكي في إنهاء متطلبات الدّراسة الجامعيّة.. وبهذا أقبلت بنشاط وبهمّة عالية على الكتابة، وكان أول عملٍ أنجزته خلال أيّام، قصةٌ قصيرة أسميتها (عقدة العصفور).
كنتُ وأثناء مطالعاتي السابقة قد قرأت شيئًا عمّا يسمّى بعقدة العصفور. وملخص هذه العقدة أنّه وكما هو معروف فإنّ العصفور يطير بسرعة إذا ما اقترب منه أيّ شيء ينذر بخطرٍ عليه باستثناء رؤيته للأفعى، فإنه حالما يراها يستوطنه الخوف والرّعب وتشل قدرته على الطّيران، ويبقى ساكنًا في مكانه إلى أن تصل إليه الأفعى، وتنقضُّ عليه وتشرع في عملية ابتلاعه، وقد أطلق علماء الأحياء على هذه الظّاهرة (عقدة العصفور).
احتلّت هذه الظاهرة مكانًا في ذهني لسنوات طويلة، وصرتُ أستخدم هذه الظاهرة كمثلٍ لما يحدث في عالم الإنسان، وكنتُ أتساءل بيني وبين نفسي: إذا كانت هذه العقدة منسجمة مع قانون الطبيعة وتشكل ضرورة في عالم الطبيعة والحيوان، فهل تجد لها تمثلات ومظاهر مشابهة في عالم الإنسان الذي يمتلك الحريّة في قراراته وحياته بشكل عام؟ وتساءلت مرّات عديدة: ما الفارق بين العصفور الذي ينتظر بفزعٍ مصيره الأسود وهو يرقب الأفعى القادمة لابتلاعه وبين البشر الذي يقبلون الخنوع والاستعباد، ويجري ابتلاع حقوقهم وحتّى حياتهم، ويبقون تحت سطوة الرّعب والخوف، ويظلّون ساكنين لا يثورون ولا يتمرّدون على منتهكي حقوقهم؟
كانت عقدة العصفور مثلًا للخضوع والاستسلام. الرّأسمالية تشبه الأفعى التي تبتلع دماء البشر، القوى الاستعمارية، الأنظمة الاستبدادية، علاقات القوة داخل المجتمع والسياسة والاقتصاد والأسرة... الخ، لكن من زاوية ثانية القوة ليست مطلقة فالقوي/الأفعى يصبح بدورة فريسة لمن هو أقوى منه فالأفعى التي تبتلع العصفور، يفترسها طيرٌ آخر هو الصقر.
ثم أخذتُ أتأمل حالتنا الفلسطينية، فنحن ورغم المقاومة الشّرسة التي نخوضها ضدّ الاحتلال الصّهيوني منذ أكثر من قرن ثمّة محطّات يستكين فيها النّاس، تهدم بيوتهم وتقتلع أشجارهم وتصادر أراضيهم ويقتلون ويعذّبون، ويجري السّطو على حقوقهم ولكنّهم لا يحركون ساكنًا..
وتساءلت مرّة أخرى: إذا كانت الضرورة عمياء في عالم الطبيعة فماذا عنها في عالم الإنسان؟ فأتذكر ما قاله ماركس: "ليست الضرورة عمياء ما دامت غير مفهومة. الحرية هي فهم الضرورة".
سجلت عنوان (عقدة العصفور) بين دفاتري لسنوات، على أن يكون عنوانًا لإحدى المشاريع الكتابيّة (كتابة، قصة، رواية، مقالة، .... الخ) إلى أن جاء الوقت في شباط من عام 2019 حيث مثلت حالة التمرد من جانب الأسرى في قسم 7 في ريمون، إلهامًا للمباشرة في تأليف هذه القصّة القصيرة.
لم أخض من قبل في حقل القصّة القصيرة، إذ اشتملت كتاباتي كلّ شيء ما عدا القصة، وبهذا كانت تجربة الخوض في هذا المجال مهمة بالنسبة لي.
وفي هذه القصّة، تخيلتُ بلدة يسكنها الخوف، ويخضع سكانها للاستكانة والخنوع نتيجة لعجزهم وقلة حيلتهم وخوفهم. وكان بطل القصّة قد شاهد في طفولته أفعىً تبتلع عصفورًا أعجزه الخوف عن الطّيران، واستقر هذا المشهد في ذاكرته، وأخذ يقارب هذا المشهد مع ما يحدث في الواقع (والدته المستسلمة بذلٍّ أمام سطوة والده، سلطان صاحب الحانوت الذي دأب على اغتصاب الفتيات الفقيرات، عبّاس صاحب المصنع الذي كان يسرق جهد العمّال ويستغلهم، مختار البلدة الذي يتربّع على عرش خوف البلدة، وفوق كلّ ذلك البرج الذي شيّدته الدّولة في البلدة، وفي أعلى البرج ينتصف جندي يطلق النار على كل شيء يتحرك في نطاق منطقة يحظر على الأهالي التّحرك فها... الخ). وقد حاولت القصّة إبراز الخوف المتفشي في البلدة بوصفه العلّة الرّئيسية للأمراض والجرائم التي تحدث في البلدة. إلى أن يظهر حميدو أحد أبطال القصّة ويقرر أن يتمرّد، ويكسر حاجز الخوف. اُعتبر حميدو مجنونًا ونبذه الأهالي؛ لأنّه خالف ثقافة الخوف (ولم يمشِ الحيط الحيط ويقول ياربّ الستر)، وكان مشهد الصقر وهو ينقض على الأفعى التي توشك على ابتلاع العصفور هو نقطة التّحول والإلهام وكشف السر. عندها أدرك حميدو وصديقه جواد أنه ينبغي للناس أن يكونوا صقورًا لا عصافير إذا امتلكوا الحريّة والجرأة. كما أدرك الصّديقان أن برج الدّولة هو العلّة الرئيسية في تكريس الخوف. وينبغي التّمرد عليه، بل والهجوم عليه والإجهاز على الجنديّ المنتصب في أعلاه.
وكانت الدّهشة كبيرة لدى الصّديقين حين اكتشفا أن الجنديّ الذي أرعب النّاس لسنوات طويلة كان جنديًا خشبيًا.
بعبارة أخرى فإن الخوف مجرّد وهم، وينبغي على البشر التّحرر من هذا المرض، ويثوروا لتحسين أوضاعهم واستعادة حقوقهم.
انتهت القصة بتشجيع التّمرد والثّورة وعدم الخضوع، أعجبني سياقها ومضمونها ورسالتها. ثم بدأت بإجراءات تسريبها. اتفقتُ مع رغد أن نباشر التسجيل. وبالفعل سجلناها على مدار يومين (نصف ساعة كل يوم) وشرعت رغد في طباعتها، وتدقيقها لغويًا من جانب والدها الدّكتور أبو أحمد، وفور الانتهاء منها أُرسلت الكترونيًا إلى شقيقي كمال.
كنتُ حائرًا في كيفية نشرها... هل تنشر كقصة على مواقع التّواصل؟ أم أنتظر لضمّها في مجموعة قصصيّة في المستقبل؟ ولم يطل الوقت حتى تبناها الصديق بكر عبوشي صاحب دار الشامل للنشر، وقرر إصدارها في طبعتها الأولى في صيف 2019، وصدرت بالفعل وجرى عرضها في معارض عربيّة للكتاب، ووصلتني نسخة منها في خريف العام ذاته.