"حنظلة"
قصة / أ . حفصة اسرايدي
القصة القصيرة الفائزة بالمركز الأول لشهر يونيو في المسابقة التي تقيمها رابطة فن القصة القصيرة
2020
تهاويت على كرسي عجوز ساحبة أذيال الخيبة مجددا . ظللت أتمسح بجدار ذاكرتي علها ترأف بي وتجود علي ببضع أحرف ألامسها و حفنة كلمات أمتزج بها حتى الاحتراق . لكن الجدار كان أملسا رخوا يستهزئ مني بتشكلاته الهلامية , كل النتوءات انمحت وكل العبارات تلاشت مخلفة خلفها مجزرة أدبية .
سمعت طرقات على الباب أطلقتني من عقال عسر الكتابة , ’’ كقارب قديم يتعفن على شاطئ مهجور ’’ , انبثقت هاته الكلمات من بين شفتي أمي بعد أن أطلت بوجهها الذي علته تعابير يأس مختلط بشفقة , استطردت قائلة : " كفاك يا بنيتي سباحة في المياه العكرة , كفاك عشقا لهذيان الهروب من واقع أغبر بنصوص و فقرات لن تعيد اليابس أخضر " , لم أنبس ببنت شفة و ظللت مطأطأ ة الرأس ,في انتظار انتهاء هذا الخطاب الاعتيادي , ردت على صمتي : " كعادتك ستعتنقين الصمت و تديرين ظهرك لي كحنظلة الذي تضعين صورته أمامك , هنيئا لك اذا بحياة تتجاذبك فيها أمواج الحيرة و الضياع بينما مرساتك مفقودة " .
لحظتها انسابت تأملاتي متناسلة , كأنني أبحث عن شيء مفقود , أسدل الليل رداءه و أنا مازلت لم أبرح مكاني ممعنة النظر في صورة حنظلة , فجأة , انتفضت الصورة من مكانها و انفلت حنظلة من الاطار كالشبح , ارتعشت فرائسي لهذا المنظر المفزع و تسمرت في مكاني من شدة الرعب , قلبي ينبض بقوة و قدماي الواهنتان لم تستطيعا حملي, نفضت رأسي عدة مرات لعلي أصحو , لكن الصحوة تأتي بعد الحلم و أنا في تمام يقظتي .
كان وجهه غائما , عندما تحرك موزعا نظراته في كل أرجاء المكان , له جسم طفل لكن رأسه قد غزاه الشيب , تجاوزني متجاهلا و مضى نحو الباب , رماني بابتسامة مشرقة زرعت في قلبي املا قد قضى نحبه منذ زمن بعيد , و أقفل الباب خلفه .
انتفضت و أنا أصرخ :"حنظلة يا أمي الذي ظل عاقدا يديه خلفه و مولينا ظهره قد استدار اليوم و التفت , حنظلة عاد ليفك حبل المشنقة عن رقبة صاحب القصيد و القصيدة , عاد ليبعث العنقاء من تحت رمادها كي تنفخ في كيرنا نارا , عاد ليغسل عن مفاتيح العودة عفن الصدأ , عاد ليلقن العالم حساب الجبر بعد أن كنا نضرب للخطوة ألف حساب , عاد لينفض عنا غبار لعنة البترول , عاد ليعيد فينا ذرة الكرامة التي داسها فجور الكراسي , عاد بجيل يفهم حكاية الأسد و الثيران الثلاثة بدل جيل جف ريقه و خفت بريقه ."
الشارع في ثوب حداد خانق , وهو يمر بين الأجساد يحمل قلم حبر أحمر دون أن يعيره أحد اهتمامه , أسقف المباني تحتشد عليها الأعين , تترقب من يحاولون فك الأغلال عن أصواتهم لتقتنص أفواههم فتشنق الحرية و تعلق في ساحة المدينة للعبرة , يغادر الشيخ المسجد مصحوبا بوقاره و في الرصيف الآخر تغادر الصبية الملهى تختال في لباسها ليلتقيا في المنتصف ,تقلهما سيارة الأجرة فتتفكك أوزان المبادئ و تختل القيم , في الزنازن يلسع السوط أوردة الأجساد و تفر اللحوم من شدة الخوف , الحمام يتم وأده تحت الثرى و الخفافيش تسكن القصور , تلم الثروات ليلا و تتوشح بربطات العنق صباحا , الموت يزحف كشبح رمادي يفتك بالأجساد و يقتلع الأرواح و في المقبرة الكبيرة , الموتى يسخرون من الأحياء , البشر يدوس البشر وكل شيء يطلب النجاة , اعتلى حنظلة منصة الموت ليصدر صرخة انتفاضة , سبق صوت طلق ناري صدى حنجرته , استقرت اللعنة على جبينه , نزف حبرا أسودا و انكسر القلم الأحمر , سروليك يحمل السلاح و العم سام يحشوه بالرصاص , الحشد يأخذ صورا و الشيخ يقول : " مالنا غير الدعاء" .
قفل حنظلة عائدا , دخل بوجه تعتليه ملامح اليأس و الشفقة , سلم بقية حلمه , عاد الى الصورة و استدار كما كان .
استيقظت من حلمي و نظرت الى الصورة , تناولت القلم و كتبت : " حنظلة ".