"أضغاثُ واقع"
قصة / أ . مروة حكمت - العراق
القصة القصيرة الفائزة بالمركز الخامس لشهر يونيو في المسابقة التي تقيمها رابطة فن القصة القصيرة
2020
وقفتُ حائرًا أمام سُلم بناية سكني؛ كنتُ أتأمل طوله الفارع بعجز؛ فلم أعد أملكُ أي قوة لإجتيازه كي أصل لشقتي القابعة في الطابق الثالث؛ فضغط العمل جعل مني رجل في الخمسين من عمره البائس رغم عدم تجاوزي لعقدي الثالث.
لا وجود للمصعد في هذه البناية أو بالأحرى لا يوجد مصعد يعمل بها؛ فالشائعات المريبة التي أُطلقت حولها جعل الناس ينفرون منها، لم يسكن فيها أحد سوى من إضطر إلى ذلك، مثلي أنا تقريبًا.
رحتُ أتسلق متثاقلًا درجاتها الواحدة تلو الأخرى وكأنني اصعد إلى قمة جبل إفرست.
أخيرًا ها أنا أقفُ أمام باب شقتي المتهالكة وأنفاسي تكاد أن تنقطع، قرعتُ الباب بقوة؛ فالجرس أَيْضًا لا يعمل، الحمد لله مازال هناك باب يُقرع، فتحت لي زوجتي الباب وكانت هادئة على غير عادتها، يبدو أن لون شعرها الأخضر الناضر وقصته الجديدة هما السبب في ذلك السكوت، إلا أنني لم أعلق على ذلك بشيء؛ فكان كل همي أن أصل إلى السرير كي أستريح.
دلفتُ إلى الغرفة وباشرتُ في تبديل ملابسي، أخذتُ مِنشفتي من درج الخزانة وتوجهتُ بها نحو الحمام، ناديتُ على زوجتي كي تحضر لي الطعام ريثما أفرغ من الاستحمام.
هممتُ بفتح باب الحمام كي أدخل إلا أنه كان مقفلا؛ هناك من يستحم، قرعتُ على الباب: "من بالداخل؟" وإذا بصوت زوجتي تجيبني: "انتظر يا أحمد لقد شارفتُ على الانتهاء" ، أبهذه السرعة دخلت إلى الحمام؟ حسنًا سوف أنتظر.
بعد قليل خرجت وهي تغطي رأسها بمنشفة إلا أن شعرها الطويل الأسود الحالك كان نائمًا على ظهرها ويقطر ماءً على الأرض، تهتُ للحظة: "ألم يكن شعركِ قصيرًا أخضر؟!" رمقتني بنظرة تعجب وشك: "أي أخضر تتحدث عنه؟! أنت تعلم أنني لا أحب تلك الألوان، أم أنك تخلط بيني وبين واحدة أخرى؟" لم أكن أريد أن أغوص في ذلك الإستجواب فاكتفيتُ بالسكوت.
توجهتُ نحو الحمام وقبل أن اغلق الباب تسلل إلى مسامعي سؤالها الغريب: "أحمد لم تقل لي كيف دخلت؟ أنت لم تأخذ المفتاح معك اليوم؟" يا لهول المصيبة لقد أصيبت زوجتي بالزهايمر.
أكملتُ إستحمامي وخرجتُ مُسرعًا بعد سماعي لقرع الباب العنيف وأنا أهمسُ مع نفسي:"أين تلك المرأة المجنونة لم لا تفتح؟"، لحظة فتحي لباب الشقة صُدمتُ مما رأيت؛ كانت زوجتي تقف أمامي بشعرها الأصفر المموج، فور رؤيتها لي إنفجرت بوجهي صارخة: "أين كنت لم لا تفتح؟ ألا يكفي صعودي لذلك اَلسُّلَّم اللعين؟"، نعم أنه مزاج زوجتي المعهود. دفعتني جانبًا بسبب تسمري أمامها ودخلت وهي تتمتم: "لا أعرف كيف أقنعتني بشراء شقة في الطابق السادس!".
لم أعد أعلم ما الذي يحدث؛ فتفكيري أصبح مشوشا جدًا، وبينما أنا قابع وسط الشقة غارقًا بطوفان الدهشة سمعتُ صوت زوجتي الناعم قادم من الغرفة يناديني: "أحمد..أين أنت يا أحمد؟"، توجهتُ بخطى حذره نحو الغرفة لأجد زوجتي ترتدي أجمل الملابس وهي تهم بالخروج، كان لون شعرها الأحمر يطابق لون عينيها تمامًا، حدقت بي بنظرات واسعة ثم أفرجت عن ابتسامة كبيرة حيثُ ملأت وجهها من أقصى الأذن اليمنى الى أقصى الأذن اليسرى وصاحت بصوت مخيفًا جدًا: "ما رأيك بشكلي الجديد؟".
تركتها وركضتُ نحو المطبخ كالمجنون، دخلتُ بسرعة وحشرتُ نفسي في إحدى الزوايا ورحتُ أرتشف جرعات الماء الواحدة تلو الأخرى بيدٍ مرتعشة، إلا أن قلبي كاد أن يتوقف فور سماعي لصوت صادر من خلف باب المطبخ: "أرجوك يا أحمد أنقذنا منها"، التفتُ بصعوبة بالغة لأجد زوجتي تمسك بسكينة كبيرة ويقبع خلفها أطفالنا خائفين وقد تشبث أحدهم بأطراف شعرها البُني.
توجهتُ نحوهم بلهفة كبيرة وكأنني وجدتُ ضالتي:"مالذي حدث لكم؟"، أخذت زوجتي والأطفال بالبكاء الهامس وقبل أن يتمكن أحد من الكلام رن الهاتف، انتفضت زوجتي برعب وراحت تتوسل إلي كي لا أتركهم وأذهب، طلبتُ منها الهدوء وأخبرتها بأنني سوف أجيب كي أطلب المساعدة.
ذهبتُ نحو هاتف المطبخ بحذر وأجبتُ بصوتٍ بالكاد أن يُسمع: "ألو"، جاءني الرد من الطرف الآخر: "ألو كيف حالك يا أحمد لماذا لم تتصل للاطمئنان علي؟ لقد وصلت إلى أهلي اليوم صباحًا".
نعم لقد تذكرت، كنتُ قد أرسلتُ زوجتي ليلة أمس إلى بيت أهلها في بغداد، لحظة أنا لا أملكُ أطفالًا.