" أحضان مالحة " للكاتبة ريمة راعي:
أن يكون لماء الحب طعم الملح!
طارق عبد الوهاب جادو - مصر
أن تقرأ النتاج الأدبي لكاتب ما بترتيب معكوس، ذلك أمر ينبغي معه أن تراعي عند التلقي عامل الزمن، شكل المنحنى المعبر عن مدى الإجادة و الإحكام للأدوات الروائية التي يملكها الكاتب، معبرا ً عنه بدلالة كل من التاريخ في مقابل الجودة. ذلك الحديث الذي قد يبدو صالحا ً كمقدمة في الهندسة التحليلية ـ بحكم مهنتي الأساسية ـ أراه منطقيا ً وضروريا" عند الحديث عن رواية " أحضان مالحة " للكاتبة السورية ريمة راعي ، فقد شاءت الظروف أن أتعرف على إبداعها الأدبي الروائي أولا ً من خلال " بائعة الكلمات"، وهي روايتها الثانية ، التي أعقبت صدور روايتها الأولى التي نحن بصددها الآن. ذلك الأمر الذي لا أريده أن يتوجه بالقارىء نحو الاعتقاد بأن "أحضان مالحة " تقل بأي شكل من الأشكال إثارة، وجودة، وإتقانا ًعما يجده في الرواية الأخيرة. ذلك أن الفن بشكل عام، في اعتقادي الراسخ، يبقى كيانا ًغير قابل لعقد المقارنات، أو خاضع لمطلق التقييم، بل يظل كل منتج فني " حالة " بذاته، لها جمالها الخاص، ورونقها، و تأثيرها في الوجدان لمن يقرأ بقلبه و عقله، لا بعينيه فقط!
حين تجتمع الرؤية الخاصة بالإنتاج الروائي لـ " ريمة راعي " في نظرة شاملة سنجد أن منحنى الإبداع و التمكن من القولبة القادرة على استثارة الوعي في تصاعد مستمر، فما بين الرواية الأولى والثانية يرتفع النسق، وينتظم الإيقاع، وتتعدد نواحي القدرة على التشكيل والتصوير وإضافة المؤثرات اللغوية التصويرية و الفلسفية. ونظل بهذا الشكل في انتظار دائم لمعرفة أين سيرتقي بنا طرف هذا المنحنى ويستقر.
في " أحضان مالحة " نضارة البدايات الغضة، تلمس أولى الخطوات في أسلوب السرد، الالتزام بالخط الواحد لزمن اللقطات والتصوير، وبكارة اللغة والنكهة الخاصة التي ستصبح فيما " أحضان مالحة ".
الرواية عن " سوار" ، تلك الفتاة الحالمة ، التي فقدت الأب مرتين، مرة حين سافر في رحلة لإيطاليا فأصيب في حادث سير فقد على إثره الذاكرة لخمس سنوات، والأخرى حين عاد فأصابته نوبة قلبية أودت بحياته لما فاجأه موقف زوجته ـ المعتقدة بوفاته ـ في أحضان زوج آخر هو حبيبها القديم، وفي البيت الذي كان في يوم ما بيته الأصيل. دراما محبوكة بمهارة و بلا مغالاة ، تفضح لنا ذلك الشبق لدى الأم " جليلة " ، وذلك الإحساس الطاغي لديها بأنثويتها التي لا يليق بها أن تظل بلا رجل، يسقيها ماءها، ويهدهد أحاسيسها. الأم التي كانت تحسدها " سوار" على قدرتها الفائقة في مجاوزة الخجل، وتجاهل الآخرين ، والتمسك برغباتها الجامحة، وبلا مبالاة بالتقاليد أو الأعراف، حين تبدأ في التخطيط لزيجة ثالثة ترتبط فيها بضابط عسكري، هو جارها الذي نسجت شباكها حوله، وحين انقاد لها لم يمهلها القدر أن تتم عرسها به إذ جاءها جثة ممددة في صندوق يلفه العلم، فكان زفافا ً لعروس بفستان مهيب مطرز، في عرس مكانه مقبرة ، و حضوره أهل العريس الفقيد، الذين يطلقون الرصاص ابتهاجا ً بالشهيد.
في حياة " سوار " نجد الصراع بين رجلين على الحظوة بمكان في قلبها الباحث عمن يسقيه ماء الحياة، ليظل غصنها الأخضر قادرا ً على مقاومة التيبس ، في البدء نجد " ميرابو " الفتى الذي يمثل شباب الثورة، النواة التي يجتمع حولها أصدقاؤه، ممن يبحثون عن ذات ووطن، فكان المرسم الخاص به مرتعا ً للقاءات تملؤها البهجة والود والثرثرات والنقاشات حول الفكر والأدب والفن ، والوطن و العالم بما يعتريهما من متغيرات، المرسم الذي أبقى لسوار ركنا باسمها فيه ، ومفتاحا" تتبادله مع الرفاق بينما مكانها في قلبه لا يشاركها فيه أحد على الرغم من نساء كثيرات طــفن بحياته المنطلقة في عــنفوان . ومن ثم نجــد عــلى الــطرف الآخــر"غسان" ، الرسام الشهير، صديق ميرابو، و الذي يكبره بعديد السنوات، الذي يمتلك من الصفات ما يناقض المجموع، فهو كثير الترحال إلى باريس بحكم معارضه الفنية المتعددة هناك ، يعيش حياة الترحال والتنقل في أفخم الفنادق مع سفراته الكثيرة، يبين ذلك في هيئته، ملبسه، عطوره، و إن كان كل ذلك قد وصلت إليه مراحل حياته الأخيرة بعد معاناة في الصبا و الشباب من الفقر والعمل في أشكال متعددة من المهن المرهقة المتدنية في عوائدها.
بين هذين الرجلين ترددت مشاعر " سوار " ، فربما تعلقها بـ "غسان " كان تعلق الباحثة عن أب مفقود، تلاحقها الكوابيس كلما ألحت صورته على عقلها الباطن، إلى الحد الذي نصحها فيه "ميرابو" بأن تعاود طبيبا ً نفسيا ً يساعدها على مجابهة تلك الأحلام الليلية المزعجة. أما الصديق والرجل الأول في المشهد فهو " ميرابو " الثائر، الذي اقتنع بالثورة في مهدها، ثم لفظها حين تحولت إلى أداة مسلحة، متطرفة، تخرج بشكل حصري في أخريات أيامها من المساجد وليس من حناجر الثائرين الراغبين في الحرية والآملين في وطن تسوده العدالة ويتسع للجميع لا للفرد الواحد.
استخدمت ريمة في سردها اسلوب الترقيم للمقاطع، متتبعة في ذلك لقطات تعبر عن دفقات شعورية متعاقبة، وأحداث متتالية زمنيا ً وإن بدأت روايتها من لــقطة النهاية ، حــين تخرج " سوار " من تحقيق أمني يخص علاقتها بـ " ميرابو " الذي اتهم بمحاولته معاداة الدولة، بينما خرجت هي ببراءتها، لما تبين من نقاء صفحتها التي لا تحوي إلا صورا ً ومقاطع لا تعبر إلا عن اهتمامها بمهنتها كمصممة أزياء للكثير من العروض الفنية و المسرحية. ذلك الخروج الذي استدعت معه البطلة / سوار كل أحداث الرواية منذ تعرفها بـ " ميرابو " وانضمامها إلى مجموعة الأصدقاء ، الذين يلتقون بالمرسم كل أسبوع، التقاؤها بـ " غسان "، وتعلق مشاعرها وخفقان قلبها له دون غيره، والكثير من اللقطات والاستدعاءات ، انتظمت في نسق مرتب ومنظم ، إلى أن نعود في لقطة الختام حين تغلق الدائرة، ونرى " سوار " تستند برأسها إلى زجاج نافذة مقعدها بالحافلة، التي تقلها إلى بيروت، هاربة من كل تلك الأحداث المليئة بالإخفاقات، التي يعبر عنها عنوان الرواية !
لماذا " أحضان مالحة " ؟
لقد رأت ريمة أن للحب ماءا ً يسقي القلوب، و لقد رأت ريمة أن للحب ماءا ً يسقي القلوب، وأن هذا الماء حين يختلط بالملح / مرادف الإخفاق، فإنه يترك اثره على المحبين، فتغدو المشاعر الخضراء في طريق لليباس، و تصبح الأمنيات والأحلام مبتورة ، بينما تغدو الـ " أحضان مالحة " ، تلك رسالة العمل إلى قرائه، تدعوهم إلى الحفاظ على تجدد هذا الارتواء، والبحث الدائم عن مصدر له، يضمن له و لعلاقة الحب حياة لا يقتلها الجفاف .
في انتظار كل ما هو جديد في عالم " ريمة راعي " الروائي المتجدد، كاتبة تخلص لمشروعها الأدبي ، و تمنحه من الاهتمام والوعي ما يجعله عبقا ً بنكهتها الخاصة في الكتابة .

