-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

رقصة قمر


بقلم: أ.خالد العجماوي


#رقصة_قمر.

ربما ورثت عن أمي كل شيء في تفاصيلها الصغيرة، بيد أني لم أرث قلبها.
ورثت عينيها العسليتين، وخصلة الشعر المتمردة على جبهتي، كما ورثت أحبال صوتها الدافيء، حين تشدو  وهي تمشط جديلة شعرها السارح خلفها. 
تقول بصوت مكسور:
-  يا ويلك يا بدرية!
لم تزل تندب حظها، وهي تلطم خدها حتى يكاد ينبلج منه الدم. لا أحد يعرف أين ذهبت "سعاد". وأين تراها اختفت "وردة"؟
هل حقا خطفهما السفاح؟!
لو أن أمري بيدها لأسكنتني داخل أعشاش الفراخ، أو لربما وضعتني بين قطيع النعاج، علّ السفاح يتوه عني، فلا يصل إلي. لم يعد لدى المرأة المفجوعة في ابنتيها إلا أنا و"كريمة".
 كريمة أمرها هين؛ حيث أن زواجها بعد أسبوع. لتكون بذلك في كنف رجل ما. أما أنا فمصيبتي كبيرة. هكذا تقول أمي.
عجيبة أنت يا بدرية! هل تغفل تلك الأم المسكينة عن أن ابنتيها المفقودتين كانتا في كنف رجل ما؟ كانت "سعاد" متزوجة منذ عامين. كذلك كانت "وردة" في حكم الزوجة بعد أن مر على عقد قرانها ثلاثة أشهر. كلتاهما يا أمي كانتا في كنف رجل ما، وبالرغم من هذا اختطفهما السفاح.
- لا تخرجي ليلا..
تقولها تقريبا كل ليلة. بعد أن تستريح من أعمال يومها الطويل. وهي تهش على نعاجها حين يحل الليل حتى يدخلن الحظيرة.
 ولم لا تريدين أن يخطفني السفاح با أمي؟ من يدري؛ ربما رجعت وفي يدي سعاد ووردة. أسرد لها هذا الخاطر فينسدل من عينيها دمعة تحفر في خدها سبيلا من التحرق والألم. تقول متحسرة:
- سعاد ووردة عند رب كريم.
أشفق عليك كثيرا يا بدرية. لست أما ولكني أستطيع أن أتخيل كم يعاني قلبك المكلوم على ابنتيك. أين ذهبتا؟
اجتاحتني لوثة غضب عارم. أود لو أقابل ذلك السفاح المريض الذي شاع أمره في قريتنا الصغيرة، فأفتك به بيدي هاتين. لماذا لا يأخذ إلا البنات؟ هل يغتصبهن؟ خطر لي أنه يختار المتزوجات فقط! ألهذا أنا بعيدة عن الخطر؟! هل يحوم الشيطان إذن حول كريمة لأن عرسها بعد أسبوع؟!
ألاحظ كذلك أنه لا يخطف إلا الخائفات! كم كانت سعاد ترتعد من ذكر اسمه ولو بالمزاح، كذلك وردة. أذكر أنها بكت من الرعب مرة وأنا أختلق لها قصة من خيالي عنه ونحن نقوم بإطعام النعاج . لم تكن حقيقة، بل واعترفت لها أني كنت أمزح حين سالت دموع خوفها. لم تسمعني. بل ظلت تبكي بحرقة وهي تتمتم مرتعدة:
- الله يسامحك يا قمر!
كان سعاد ووردة قد ورثتا قلب أمي حقا. القلب الواجف، المضطرب والخائف. لا أزال أذكر بدرية وهي تنظر نحو الأرض حين يلومها أبي لسبب ودون سبب. كم كنت أكره نظرتها تلك! أذكر لما كنت في السادسة، ونهرها أبي لشيء لا أذكره. نظرت نحو الأرض مستكينة وطيعة.  بدت وكأنها تستلذ حين ينهرها. كأنها كانت تنتظر منه شيئا أكبر. أمسكها من معصمها يومها وقد تأوهت هي ألما. دلف بها إلى الحجرة وأغلق عليهما الباب. بكيت وأنا أسمعها تتوسل. تقسم أنها قد تابت. تتأوه. ثم تتوسل.  ثم يُفتح الباب وأرى الرجل خارجا  وهو يتصبب عرقا وصدره يعلو ويهبط.  ألمح بدرية من طرف الباب فأرى امرأة شعثة بللت خديها بدموعها، وإن كان على شفتيها شيء وكأنه ابتسامة!
كم كرهت ابتسامتك هذه يا بدرية. كيف أرى ابتسامة وحولها دموع؟ لم ترضين بالتوسلات؟ لم أفهم، وإلى الآن لا أفهم.  قالت لي بدرية مرة:
- بعد زواجك ستفهمين أشياء كثيرة..
منذ عامين، شاهدت نفس النظرة الطيعة في عيون سعاد. كان وقتها بيومي لا يزال خطيبا. نظر في عينيها مباشرة نظرة جريئة. انكسرت نظرتها وتوارت وهبطت بها إلى الأرض. وجدت ابتسامة جائع في عيون بيومي، ووجدت في سعاد نظرة توسل، وتأوه، ورضا. تماما كتلك التي رأيتها عندك يا بدرية!
اعترتني رغبة هائلة في أن ألوم أمي. أنت السبب. أنت من أورثت خوفك لبناتك، فصرن مطمعا لذلك السفاح البغيض! علمتهن أن يكن خائفات. وأن يفضلن الحياة في كنف رجل. وأن يتلذذن حين ينهر، ويثور، وأن يتوسلن،  وأن يطلبن عفوه ورضاه. نعم أصبحن مطمعا للرجال كي يتزوجوهن، ولكنهن كذلك صرن هدفا لذلك السفاح!
أما أنا فلا!
ورثت كل شيء عن بدرية إلا قلبها!
منذ شهرين حضرنا خطيب. قدمت له صينية الشاي. نظر في عيني نظرة فاحصة. نظرت إليه. ظل ينظر إلي في تحد.  لم أهبط بنظري إلى الأرض. سددت مقلتي في عينيه مباشرة. بدت عينانا وكأنهما يتصارعان. شعرت به يبتلع ريقه، ومن بعدها رجولته. هبط بنظرته إلى الأرض وقد تصبب عرقا. تجرع كوب الماء دفعة واحدة واعتذر، ثم انصرف. وابتسمت أنا وقتها ابتسامة رضا!
غضبت بدرية كثيرا بعدها. قالت إنني لن أتزوج وسأستحيل إلى عانس. ضحكت بصوت عال. كانت ضحكتي تشبه ضحكة أبي كثيرا حين يكون رائقا.  هكذا شعرت نفسي حينها.
- سأذهب كي أرعى النعاج.
- لا تذهبي!
- هل نتركها كي تموت؟
- سيخطفك السفاح يا قمر..
علا صوتي من أثر الغضب العارم، وقد بدا كالهزيم في الأثير:
- فلتأت أيها السفاح إلى قمر!
لم أهدأ حتى ذهبت لأترك نعجاتنا ترعى في الكلأ أمام منزلنا. 
ظللت أفكر طوال نهاري كيف أستميل ذلك السفاح كي يخطفني كما خطف سعاد ووردة؟
حل الليل. بدا القمر وضاء كشمس صغيرة يحتضنها الظلام.   
خرجت في العراء. تنفست نسمات الليل الهاديء. شعرت وكأن نسمة في السماء تعزف لحنا. مددت ذراعي في الأثير، وهززت أردافي وأنا أغني على أنغام قيثارة حفيف الشجر. هبطت بنظرتي إلى الأرض. وقصدت أن أجعلها منكسرة ومتوسلة. حاولت أن أرسم على شفتي بسمة رضا. وشعرت وكأن الطبيعة كلها تنظر نحوي باشتهاء. أين أنت أيها السفاح؟ عجبت وقد لمحت نعجتين يتركان الحظيرة ويتمعنان فيّ. بدت عيونهما على ضوء القمر الخافت كحجري فيروز. لمحت فيهن عيون سعاد ووردة!

عن محرر المقال

م.زينب الأسدي

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية