القاسم يترافع امام "ميدوري"في أحزان الفصول الأربعة
د. سلطان الخضور
على الرغم من أن قصيدة "ميدوري" الواردة في ديوان نضال القاسم الموسوم ب" أحزان الفصول الأربعة" تبدو قصيدة عاطفية, إلا أن من يدقق في القصيدة لا يجدها تخرج عن السياق العام للديوان. فقد جعل القاسم من دورة الحياة المتمثلة بالفصول الأربعة. بخريفها وشتائها وربيعها وصيفها, دورة تتشح بالحزن, وذلك لأنه يستحضر في أغلب قصائد الديوان (فلسطين) التي ينظر إليها من خلال مفرداته كطائر جريح يحتاج إلى من يقدم له العلاج, ليخرج من بوتقة الألم. يحتاج إلى من يضمد جراحه ويضفي على جناحيه شيئاً من الأمل, ليحلق من جديد في فضاءات هذا الكون الفسيح ويستمتع بها مع غيره من الطيور التي تحلق بلا قيود وبلا جراح.
إن من يقرأ الديوان يلمس بسهولة عاطفة الشوق والحنين للوطن عند القاسم, فهو يستمطر في ديوانه المذكور ما وجده مناسباً للتعبير عن عاطفة الحب للوطن الجريح, واستدرج بنجاح مفردات تاريخية وجغرافية وتراثية وروائية تعكس الحق المسلوب والفلسطيني المصلوب على خشبة القهر والظلم والمقيد بحبال استلاب هذا الحق, كجزء من العالم العربي الذي تكسوه الهموم. وقد عبر القاسم عن ذلك ايضاً في صورة غلاف الديوان الذي كان طوقاً على يخلو من الورد والشوق.
لكن هل يظهر ما ذكرنا في القصيدة موضع الدراسة؟
إن قصيدة "ميدوري" للناقد والشاعر نضال القاسم في ديوانه "أحزان الفصول الأربعة" تحمل معان عديدة وتساؤلات كبيرة، وكأن القاسم يريد أن يقول الكثير مما يجب أن يقال, لكنه لم يجد فرصة لأن يقول كل الذي قال أمام صاحب قرار, أو أنه لم يجد شخصاً محايداً يتعاطف مع روايته عن الحق المسلوب والزمن المغلف بالقهر, وما اصعب قهر الرجال, فهو هنا يريد أن يقول شيئاً مختلفاً ويريد أن يقول كل ما لم تكن تتسع لقوله قصائد هذا الديوان في حواره مع "ميدوري" في القصيدة التي عنونها باسمها.
"ميدوري" فتاة يابانية، تعمل مضيفة طيران، ومضيفات الطيران كمضيفات الاستقبال يتم انتقاءهن بعناية ووفق معايير صارمة تراعي الذوق والرقة والجمال وحسن التواصل والمعرفة يعرفها أصحاب الشأن, لتعكس صورة ايجابية وجاذبة للوطن وللجهة التي تعمل لمصلحتها.
"ميدوري" فتاة ساحرة بالغة الرقة وخفة الدم، جمعت في قوامها كل حسن الفتيات اليابانيات, وتجملت بعذوبة صوتها وجمال ثيابها وإضافاتها, فباتت جاذبة فاتنة.
التقى الشاعر القاسم "ميدوري" في رحلة له وهو متجه إلى اليابان. ويبدو أنه لم يستطع مقاومة حسنها فانجذب نحوها ودار بينهما حوار طويل, لا سيما أنه وجد فيها تلك المرأة التي تتقن فن الاستماع.
كانت بداية الحديث في الطائرة، ونزلت "ميدوري" على الشاعر القاسم كالصاعقة - جمال ورقة وحنان وتهذيب ولطف وحسن استماع، وكأن شاعرنا في امتحان، فقد آن الأوان لعقد مقارنة بين المكان والمكان وأخرى بين الزمان والزمان، فكأني به كان قد تمنى لو يطول الزمان بذات المكان, ويسمعها من القول ما لم يكن بالإمكان.
يبدو أن كلاً منا يحتاج إلى "ميدوري" لينفس عن نفسه قليلاً، ويخرج ما في دواخله من آهات دفينة، لا يستطيع البوح بها إلا لها، علها تخفف من أحماله وتريح نفسه ليجدد الحياة, لأنها حتما ستبعث فيه بارقة للأمل, وتجعله يقبل على الحياة بتفاؤل واشتياق، وكأن "ميدوري" بحسنها تعكس ما قاله محمود درويش" على هذه الأرض ما يستحق الحياة", فنجد القاسم يخاطب القاسم ميدوري فيقول:
" كان صوتك عذباً يوقظ الربيع في شفاه الأودية
يهبط من ذرى الآيقاع
لثغة لثغة ينساب(أو - ها- يو)
يندف فوق الرؤوس
يموج بالحياة من كل جدب وصوب
مترنماً أصغي له مع كل آه"
هذه "ميدورى" وكأنها إن تكلمت عزفت جرساً موسيقياً يبعث الحياة من جديد, ويجعل من قيعان الأودية اخضراراً يسر الناظرين، هذا الصوت كترنيمة موسيقية لا يملك سامعها إلا الاصغاء. وتتسارع دقات قلب الشاعر من عذوبته ورقته, فتتزاحم الصور في مخيلته, ويخلط جمال المنظر الآني بجمال الحلم الآتي لتقوده إلى حالة من اللاوعي مستفزة للمشاعر عند الشاعر, فيعبر عن ذلك بأرق الكلمات في حالة من اللاشعور, وكأنه أمام حالة استثنائية, لا يملك إلا الاستجابة لها فنجده يقول:
" لعينيك صفو الينابيع وما بين جفنيك برد ونار/ وأنا أغرٍق في ضفافك ناظري فيغرقان ما بين صوتك والصدى ونبحث عن الكلام/ تحت ضوء خفيف رايتك من أخمصيك إلى بهو رأسك ريانة عاطرة مجللة بالبهاء والطبع المزاجي الغريب/ أرق من الورد كنت/ أمرة حسناء جذلى أسرة / رأيت وجهك البهي والضحوك والعنق المديد والقرط الطويل والأساور الجميلة... تبعثرت لما رايتك ما بين ضوء وظل.
وتبدأ رحلة التعارف بين الشاعر و"ميدوري" ويعبر لها عن افتتانه بها, ويطلب منها اللقاء فتقترح أن تكون المغازلة خارج الطائرة فيقول على لسانها "وكيف يمكن أن نحب وان نغازل بعضنا في الطائرة؟" فتقترح عليه العديد من الاماكن وهنا تتضح لنا مسألتان. الأولى لها علاقة بتوثيق المكان والثانية كثافة المواضيع التي سيحملها جدول اللقاء الأول, فعلى صعيد الأولى يوثق الشاعر العديد من الأمكنة مثل "كانتاناكا, مطعم بحري, المسرح الوطني, برج طوكيو, المترو, معبد الشنتو, أكاسوكا, حي شيمباشي, شارع الجينزا. هاراجاكو, فوجي سان, حي شيبويا, حي شسناغوا. حي شينجوكو, نهر سوميدا, روبونغي". ولكن يجب أن نلاحظ ازدحام جدول الأعمال حين يتم اللقاء, فكانت المواضيع المدرجة على جدول الأعمال كل منها يحتاج إلى جلسة, ما يشير أن القضايا المحبوسة في الصدر كثيرة وكبيرة نوردها من خلال النص.
" وهناك نبدأ الحوار عن " فوكوياما" وعن ناطحات السحاب و"السومو" وعن حادث مؤسف للقطار/ أو نلتقي في مطعم بحري...نناقش فيه" "البنيوية" والحداثة والهوية والتصحر والجوع و"التكتيك" والحب...نناقش خدعة "الهولوكست" ورقصة "التانجو" ونحكي عن طواحين الهواء/ ونلقي خطاباً نعدد فيه المآثر عن حاملات الصواريخ والعولمة.../ونرسم الافق البعيد والليل, والصمت الرهيب والغيم, والرعود, والبحر, والأعناب, والأنهار, والجبال, والأشجار, والصحراء, والتراب, والأبواب, والسماء, والعتمة المفرطة....".
وبالتالي كان الاقتراح على اللقاء في "ناجويا",يقترح المكان, ويسرد الحكايا, فلا يكاد ينهي عنواناً حتى يجد في الذاكرة عنواناً أخر ينحسر بين العناوين فيعطيه الأولوية بين المقترحات فهو يقول:
"وهناك متسع لنحكي عن "خطيئة آدم" أو عن "ذئب يوسف" أو عن "عصا موسى" و"أبو زيد الهلالي"... ويكمل ..." فلا تمعني في السؤال ما بين ظلي وبيني, ويحاول الخروج من نفق الأسئلة التقليدية, ويختصر كل الدروب بالدرب المؤدي إلى المقبرة, ولا تسأليني عن الأهل والحال والأصدقاء ما بين شط الجريد وشط العرب/ فكل الدروب في بلادنا تؤدي إلى المقبرة.../ وهناك ندخل في حديث عن الجوع والأمن الغذائي, أو بحث البطالة والتضخم والشقاء...وفي بلادنا الأنهار جفت وأعداد الخيام على المدى تزداد للنازحين...وفي بلادنا تئن الريح والشمس تشرق حمراء/ وليس في بلادنا سوى بلادنا التي تمزقت إلى أشلاء /وقد أنهكتنا حروب القبائل واللجان المستديمة .../وليس في بلادنا سوى مسيرات التضامن ... والغزاة والطغاة"
ما ذكرناه يشير أن الشاعر لم يكن يريد أن يتحدث عن شأنه الخاص, وأنه لم يعد معنياً بما له علاقة بالأهل والأصدقاء, فهناك قضايا كبيرة تحتاج إلى من يتذكرها فيذكرها على الأقل أمام شخص ولو كان لا يملك إلا حسن الإصغاء, ولا يملك الحل وقد لا يكون معنياً بهذه القضايا التي تؤرق نفس الشاعر, لكن النفس فيها اعتلال وفيها اعتمال في جروح غير ظاهرة لكنها محبوسة, ربما وجدت فرصتها في هذا اللقاء, فأراد الشاعر بذكاء أن يكون انتهازياً فيفكر بصوت عال. كل هذا الذي ذكر شيء مما تزاحم في الذاكرة ولم يكن اللقاء قد تم, ولما كان اللقاء انحبس البوح وبقي الحرف كالسكين يقطع اشلاء الكلام.
" قلت أتركيني وابتسمت ... / فكأني وكأنها أحلام." لقد قال القاسم الكثير دون أن يقول.