" الهوتة " للروائية السورية نجاح إبراهيم
الكاتب : فايز الصيني/ سورية
الأعمال الأدبية الكبيرة تتميز عما يكاد يشبهها بصناعةِ مادةٍ جاذبة لا تسمح لك بمغادرتها حتى يجف لعابك، و أعمال الأديبة و الروائية نجاح إبراهيم إحداها، و رواية " الهوتة" أخَصُّها، فقلَّما نجد عملاً أدبياً مهمَّاً يحيط بمواقع و محطات أحداثه قبل اكتمالها على أرض الواقع، في حين استطاعت المؤلفة اجتياز هذا الساتر ببراعة؛ " و الهوتة " كروايةٍ تنبئكَ بأنك أيَّان يمَّمتَ وجهك في زماننا إنما تتجه نحو " هوتة"، تلك الحفرة التي لا مفزَّ من سقوطك بها مبصرٌ كنتَ أو معصوب العينين.
الرواية من سبعة فصول و خاتمة، بل من سبعة انحداراتٍ و هاوية، أو سبعة زلازل و ارتدادية، تأخذك إلى مكانك و كأنَّ الكاتبة تعرف أين أنت موجود، تقرأ ذاتك في بطلها " حامد" و تقرأين نفسكِ في أيٍّ من بطلاتها " لمياء" أو " بَهار" لكنكِ أبداً لن تكوني كالسيدة " ماري إيزابيل" فمثل ماري قد لا تقرأ .
و هكذا ف " الهوتة" لوحة معاصرة لمشهد من مشاهد الحياة السورية الحبلى بالمعاناة و الألم، و قد رُسِمَ بريشةٍ بليغةٍ مدادها حروفٌ قلَّما يستطيع نسج ردائها كالراوئية النسَّاجة لخيوط اإبداع الأديبة " نجاح ابراهيم " .
و لم تغفل الروائية عن إحاطة المشهد المؤلم بأهم مكوناته ألا و هو الحب الذي لا تضيع ودائعه مهما عصفت بالإنسان النوائب، و أمرٌ طبيعي أن يتحول الحب إلى آلام مبرِّحة على أهوال أمواج الحرب المريرة التي عصفت بالبلاد، و كذلك انتشار الأوبئة في نفوس تجَّار الحرب و أحناشها المرقَّطة جلودهم.
" الهوتة " عملٌ ذو إبداع يشهد له تعطُّش قارئها، حيثُ لا ينتبه إلا و قد لاصق بصرُهُ صفحتها الأخيرة، و قد تجمَّع صدى أحداثها في مخيَّلته طالباً اللجوء مرةً أخرى لرغبة قراءتها.
و إنَّ البراعة في تصوير مشاهد المرارة و الألم التي خلَّفتها الحرب ظاهرة بجلاء في صور قلَّما أجاد بها مصوِّر أو التقطتها كاميرا، حيثُ صوَّرت مؤلفة الرواية المهاجر "حامد" من أطراف البادية السورية و الهارب من الفقر و الحرمان من أبسط مقوِّمات الحياة، لينحشر في قبوٍ ضيق من أحياء دمشق، إلى أن تحطَّ به رحلته المريرة الناشئة عن الحرب متلاطمة الأمواج و الأعاصير في "موسكو " بلد الغربة و الثلج.
في الغربة هناك صادف "بهار" تلك المهاجرة من بلده، التي تزوجت بمن تحب في الموصل لتعود سبية إلى الرقة، حيث لم تكن حقبة وجودها في سورية أحسن حالاً من حقبة " حامد"، و هناك حدثته عن " الهوتة" و ما لاقوه من شرِّ الأعمال ممن يرفعون رايةً يدَّعون أنها لآخر الديانات.
" الهوتة" لا يفصلها عن الملحمة في مكوناتها سوى أنها تتحدث عن حقبةٍ معاصرة، ما زالت الهوتة ماثلة للعيان، عصيَّةٌ بأساطيرها السوداء على أن تُغمَر بتراب النسيان.
هي الحرب التي لا تُبقي من الفرح و لا تذر، و يختلط فيها حابلُ العدل مع نابل الظلم.
تحيةً للأديبة البارعة نجاح إبراهيم على هذه التحفة التي تغني المكتبة العربية بنقاء المؤلفات، و أخلدها.
الكاتب فايز الصيني/ سورية