-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

قصة قصيرة / التحليق من فوهة زجاجة للأديب حسن عبد السلام ابو دية/ فلسطين




التحليق من فوهة زجاجة 

 قصة قصيرة 

 أنا لست رجلاً ، بل أحسب ألاّ رجل في هذا الزمن باستثناء أولئك الصامدين.هل تسمعني أيها الطبيب؟؟ كان العرق يتصبب فوق جبينه كمن هو في مخاض عسير، هاهو قد قرر أخيراً أن يتكلم بعد صمت طويل. سأتحدث ، قالها فجأة بعد عدة جلسات، ولكن عليك أن تفهم أولاً بأني لست مجنوناً، وعندما لجأت للصمت لأني كنت أدرك أنهم لن يفهموني، نعم لن يفهمني أحد، ولكن من أين سابدأ؟ لست أدري. ستسأل لِمَ قررت أخيراً أن أخرج من صمتي، سأقول لك لقد ارتحت لك ولهذا المكان، في المرات السابقة كنت أتامل هذه الغرفة الصغيرة ، أعجبني أنك أودعتها رسائل صامتة ، ليس الكل يفهمها ، نحن في زمن لايفهم الناس اللغة المنطوقة فما بالك بالرسائل الصامتة ، لقد بُح صوتي متحدثاً عن الوطن وأولئك الخونة. كان الناس ينظرون إليّ بعيون فارغة..آه ياسيدي، أعجبني في غرفتك تلك اللوحة المعلقة على الحائط ، أترى الطير الذي يحاول الخروج من بين قضبان السجن، هذا أنا ، أعرف تماماً أن أحدهم رآني فسرق هذه الصورة، هل يمكنك أن ترد إليّ صورتي؟؟ لابأس دعها معلقة عندك لتذكرني ، كما أعجبني تلك الشمعة المحاطة بالسلك الشائك، إنها شعار منظمة العفو الدولية ، اسمع أنا يعجبني الشعار ولا تعجبني المنظمة، إنها منحازة، كلهم منحازون لأعدائنا ، والجيد فيهم من يقف على الحياد، ونحن نصفنا خونة، هذا إذا لم يكن أكثر، أولئك الذين يسمون أنفسم ثوريون كلهم خونة يريدون مناصب ومصالح شخصية، انتهى الفكر الثوري، لقد قتله الثوار المسخ، أرجوك لاتقاطعني ، منذ عدة جلسات وأنت تسأل دون أن أجيب ، الآن جاء دوري ، سأتحدث وستسمع .. لذاتي صفعني أحدهم، آه لو أراه الآن وقد تحررت يداي من القيود التي كان يربطني بها، لا أظن أن يدي سترتجف. يصمت، لكن من قال ذلك ؟ أنا لست رجلاً حتى أفعل أي شيء. المرة الوحيدة التي ضربت فيها رجلاً اعتقلتني الشرطة، وركلني أحدهم بحذائه على رأسي. مد يده إلى جبينه وأراني آثار جرح قديم، هذه بصمة حذاء ذلك الكلب، واستمر يركلني حتى جاءت زوجتي وأبرزت لهم ورقة، كان الدم يغطي وجهي ، حاولت أن أعرف ما تحويه تلك الورقة دونما فائدة، لكن الضابط نظر إليها بعمق وتبادل الهمسات مع زوجتي ثم أطلق سراحي. كل الظن أنها كانت تتعامل معهم لذلك لم أعد أتحدث أمامها عن أي شيء. لم تسألني مَنْ الذي ضربته؟ لابأس ربما فاتك ذلك؟ أترى ؟ أنا لست مجنوناً، أعرف تماماً عن أي شيء أتحدث، وأذكِّرُكَ بما تسهو عنه،لابأس ،أنت رجل طيب، وأنا أحببتك، أعطني سيجارة أخرى، الرجل الذي ضربته كان إمام المسجد، أتعرف لماذا ؟ لأنه بال في أذني. نعم ،أقسم بالله لقد بال في أذني أمام الناس جميعاً وفي المسجد، حدث ذلك يوم الجمعة، كان دم الشهداء كثيراً كأنه موج بحر، وكانت السماء تمطر فيختلط الماء بالدم وتجري الوديان بذلك السائل الأحمر، وعندما ارتقى الخطيب المنبر أخذ يتحدث عن الحيض والنفاس، نظرت من نافذة المسجد كانت الجثث تغطي الطرقات، كيف جاءت إلى هنا لست أدري، صحتُ: ألم يبقَ ما تُحدثنا عنه إلا الحيض والنفاس؟ ألا ترى ما في الطرقات؟ نظر إليّ المصلون باستهجان وأشار إليّ بعضهم بأن أسكت، وقفت وقلت بأعلى صوتي : من كان منكم حائضاً أو نفاساً فليخرج من المسجد، لم يلتفت إليّ الخطيب واستمر يقرأ من ورقة صفراء بين يديه ، لم أتمالك نفس عن الصعود إليه وصفعه، لقد أحسست به يبول في أذني، هل تسمح لأحدهم أن يبول في أذنك؟؟ منذ ذلك الوقت ،عرفت من هو الذي يشي بي لأبناء إبليس، عندما جاؤوا في تلك الليلة ، كانت العتمة تقهر كل شيء، لم يطرقوا الباب ، لم أُفقْ إلاّ وهم فوق رأسي في غرفة نومي، كانت زوجتي شبه عارية، ألقيت عليها الغطاء فابتسم أحدهم، آه كم أغاظتني ابتسامته، ثم جرني إلى الغرفة المجاورة وأخذ يعبث بأوراقي وكتبي وانتزع عن الحائط بعض الصور وألقي بي في سيارة بعد أن عصب عينيّ ولم أرَ النور بعدها لفترة طويلة ، كان المحقق كلما دخل فتح ملفاً ضخماً . اسمع ربما كنت أصوّب فوهة المسدس إلى رأس زوجني؟ أو ربما لرأس ذلك المحقق؟ أو لرأس خطيب المسجد؟ لا أدري المهم ، لـَمْ أطلق النار..أتعرف، عندما وضعوا على رأسي ذاك " الكيس الأسود" أحسست في البداية كم هو نتن، كان مليئاً برائحة العرق والدم الجاف، ولكن قبل أن نصل إلى وكرهم وينزعوه عن عينيّ كان ثمة ألفة بيني وبينه، أحسست بهمساته تُسكب في أذنيّ، لو لم تكن رجلاً لما حقد عليك هؤلاء الخصيان، كانت مئات الأصوات تأتي إليّ من بين خيوطه تشدُّ أزري، تلك الخيوط كان فيها من الرجولة ما لم يكن في جارنا الذي تلصص من نافذته وهم يجرونني إلى السيارة ، لمحته، لم يجرؤ على إنارة الغرفة، ناهيك عن إزاحة الستارة تماماً ….لقد مللتَ من حديثي، أليس كذلك ؟ ما بالك لاترد؟ معك حق ، الصمت أفضل..هل يمكنك أن تصنع لي فنجان قهوة؟ منذ فترة لم أشمّ رائحة البن وهو يعانق الماء المغلي،لقد منعوني من كل شيء؛ حفاظاً على أعصابي كما يزعمون. يبتسم ابتسامة هازئة، اسمع : لن أخبر أحداً أنك سمحت لي بفنجان قهوة وتدخين سجائر، لأني سأصمت ثانية بعد أن أخرج من عندك، لكني سابقى أذكرك ، أعدك بذلك..كان يرفع أنفه ثم يأخذ شهيقاً عميقاً كأنه يجمع رائحة البن من الهواء ثم يطلقه متنهداً بهمس: الله ما أجمل هذه الرائحة!!! أخذ يرشف القهوة بتلذذ ، لم أرَ في حياتي من يغازل بكل حواسه فنجان القهوة ، يتلمسه بأنامله ويرقب قطراته بحنو وعتاب ثم يرتشف قليلاً ليعاود التأمل..ثم يمتص سيجارته بنهم ويطلق الدخان من فمه ويتابع سيره تجاه النافذة كأنه يودعه.. أتعرف يا دكتور ويضحك بعمق، بل يغرق في نوبة ضحك هستيري، وإذ يتمالك نفسه يتابع: ذات مرة حدثت نفسي لِمَ يبول الأطفال في فراشهم ليلاً، فقررت أن أجرب ذلك، لا شك أنهم يستمتعون بذلك ، ويغرق ثانية في الضحك، آه لو رأيت وجه زوجتي عندما فعلتها، كنتُ مستيقظاً تماماً، أحسست بذلك السائل الدافئ ينساب على فخذيّ، نظرت إليّ زوجتي فرأتني أبتسم، جحظت عيناها ثم أجهشت بالبكاء، أحسست أني أنتقم منهم جميعاً، أولئك المتآمرين عليّ، قلت لها لِمَ تبكين؟ همست إنها نجاسة ، فضحكتُ قائلاً: ما فائدة أن نكون طاهرين من الخارج مادامت دواخلنا مليئة بالنجاسات؟ على الأقل أنا قلبت الآية، أنا طاهر من أعماقي أما انتم فلا.. وغرق ثانية في ضحك حتى امتلأت عيناه بالدموع ثم راح يبكي.. كانت صورته وكلماته لاتفارق أذنيّ بعد أن أقفل فمه ثانية وأعلن العودة إلى الصمت وقال : آن الأوان أن أفكّر بجدية في مرحلة مابعد الصمت. انا لست رجلاً، ياله من اعتراف خطيريُصرّح به ، حتى في الحلم لم أستطع أن أكون رجلاً ... في الصباح عندما ولجت العيادة، تأملت الشمعة المحاطة بشلك شائك، ثم التفتُّ إلى اللوحة المعلقة، سقط كوب القهوة من يدي، كان هناك طائران يحاولان الخروج من بين قضبان السجن، وتذكرت فجأة أني هذه الليلة حملت مسدساً وصوبته، لكن يدي ارتجفت ولم أستطع الضغط على الزناد.
حسن عبد السلام ابودية/ فلسطين

عن محرر المقال

ندى خليفة

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية