حنا مينة "مؤرخ الفقراء و المضطهدين"
جيلالي عمراني
المصابيح الزرق
نعيش هذه الأيام ذكرى وفاة الروائي السوري الكبير حنا
مينة(ابن اللاذقية، ولد في 1924 ثم هاجر إلى حي المستنقع في اسكندرون، عاش حياة شاقة و أنهى دراسته الابتدائية مبكرا
ليتفرغ لإعالة عائلته، ربما هذه الظروف القاسية جعلته يعيش الحياة بعمق و يكتشف
القاع الذي هو فيه و يكتشف التفاوت الطبقي بين البشرية، لكن سرقته الكتابة في سن
مبكرة أين اشتغل في الصحافة السورية أولا، "الإنشاء
السورية"، هذه النقلة جعلته يقترب من الأدب فكتب المسرحية، و القصص القصيرة
ثم الرواية، كنا من جيل تعلّم على يدّ هذا الشيخ المكافح بلا هوادة و
العصامي الفريد من نوعه.
والبحّار الذي خاض غمار الكتابة ويقول في هذا الشأن تحديدا" فقد ولدت بالخطأ
ونشأت بالخطأ وكتبت بالخطأ أيضاً" الكتابة
التي تعلمها عن طريق كتابة العرائض و الرسائل، و يضيف قائلا عن مهنة الكتابة" ليست
سوارا من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة"حنا مينا هو الحلاق و الحمال و الفقير و المحرر الصحفي، هو الذي
يكره الغرور و التواضع، يؤمن بالعمل و الاجتهاد، فمنح لنا المتعة طيلة مشواره الإبداعي نذكر على
سبيل الحصر هذه الأيقونات الكبيرة: المصابيح الزرق، الشراع و العاصفة، نهاية رجل شجاع، المرفأ البعيد،حكاية بحار،الدقل، الياطر، الشمس في يوم غائم، بقايا
صور...الثلج يأتي من النافذة، الأبنوسة البيضاء، الربيع و الخريف...الخ
أول عمل قرأته لشيخ الروائيين "المصابيح الزرق" قرأت روايته
الأولى "المصابيح الزرق" في سنوات المراهقة، بالنسبة لي كانت
مصابيح حنا فتحا كبيرا أن أتحصل على تلك الباكورة من مشواره، حينها شهرة
حنا مينة بلغت أركان المعمورة من خلال تلك الروائع المترجمة إلى لغات العالم،
الروسية و الصينية، و الانجليزية.
رواية المصابيح الزرق التي
كتبها على مدار ثلاث سنوات، و نشرها سنة1954 عن شخصية فارس المكافح، لكن هي أيضا
عن بطولة شعب خلال الحرب العالمية الثانية، يفاجأ الشاب فارس(16 عاما) باستدعاء
معلمه صاحب الفرن إلى الحرب لم يكن يهمه إطلاقا ذهابه إلى الحرب بقدر ما يهمه فتح
المتجر(الفرن) مصدر رزقه و رزق أهله من سكان اللاذقية، هذه هي شرارة الرواية
الأولى، هذا الإغلاق يفتح على الشاب فارس أبواب الجحيم و الفقر و السجن أيضا
باعتبار بطالته تلك جعلته يتعارك مع البعض
و تدخله غياهب السجن، ليأخذنا حنا مينة إلى عمق الأسئلة الكبرى عن الحرب و المأساة
التي تخلفها في نفوس الأهالي، كيف تحبرك تلك الظروف القهرية أن تكافح أو تموت من
أجل الآخرين و أنت تحت سلطة الاحتلال، فمثلا أبو فارس الهارب من الحرب لأنه لم
يستسغ الدفاع عن الأتراك، كيف تتحول من باحث عن الثروة إلى سجين بسبب مشاجرة عابرة، أو إلى خائن تبيع الوطن
و الشرف و الأهل، و المغادرة بعيدا عن الوطن و مآسيه.
الرواية هي رواية البؤس الحقيقي، بؤس الشعب و المجتمع برمته، تلتقي
بشخصيات كأنك تعرفها حقيقة، مثل : الصفتلي و
محمد الحلبي...
خلّد حنا مينة تفاصيل الحياة البسيطة في اللاذقية بأسلوب سهل
و ممتع، و بشاعرية، فتقرأ المصابيح من أول سطر إلى أخر كلمة، بنفس التّوهج و
المتعة، و الحرقة أيضا.
هي الرواية المبتدأ في الرحلة الطويلة و الشاقة التي منحت لكاتب
البحر الشجاعة الكافية ليستمر في فن القول و السرد في 40 رواية جاءت تباعا بعد ذلك، وأخذته بعيدا نحو منصات التتويج بجوائز رفيعة و تكريمات و دراسات نقدية في مختلف الجامعات
العالمية. ولا تزال إلى اليوم رواياته
تستقطب الدارسين و المبدعين للبحث في متونها عن الجواهر و أسئلة حنا مينة
الذي وصفته جريدة نيويورك تايمز بـ"مؤرخ الفقراء و المضطهدين"
ليس من السهل ان نحيط بجميع تفاصيل إبداعات هذا الروائي الكبير، الذي علّم أجيالا
في هذه المنطقة الكبيرة أصول الحكي و السرد
و النضال.