-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

الدكتور الأستاذ الفلسطيني لطفي منصور خاطرة علمية

أ.د. لطفي منصور

خاطِرَةٌ عِلْمِيَّةٌ

كُنْتُ أُفَكِّرُ في قَضِيَّةِ انتِحالِ الشِّعْرِ، وِما عاثَ بِهِ الرُّواةُ فيهِ، وَأَخُصُّ منهمْ الرَّاوِيَيْنِ حَمّادًا الرَّاوِيَةً (ت156هج) وَخَلَفًا الأَحْمَرَ (ت180هج) اللَّذَيْنِ كانا يَزيدان في أَشعارِ النَّاسِ، وَيَنْظُمانِ القَصائِدَ الْجَمِيلَةً وَيُنْحِلاها لِبَعْضِ الشُّعَراءِ الْجاهِلِيِّينَ خاصَّةً، لِيأخُذا عَطايا مِنْ قَبائِلِهِمْ. بَيْنَما كَانَ الْخُلَفاءُ يَحْرِصُونَ عَلى طَهارَةِ الشِّعْرِ وَنَقاوَتِهِ وَأَصالَتِهِ مِنْ عَبَثِ هَذَيْنِ الشَّيْطانَيْنِ.

كَانَ الْمَهْدِي يَطْرَبُ لِمَدائَحِ زُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى لِهِرِمِ بْنِ سِنانٍ، خاصَّةً الْقَصِيدَةَ الرّائِيَّة الَّتِي كانَتْ تَبْدَأُ بِهَذا الْبَيْتِ: مِنَ الْكامِلِ

دَعْ ذا وَعَدِّ الْقَوْلَ في هَرِمٍ          خَيْرِ الْكُهُولِ وَسَيِّدِ الْحَضْرِ

الْمَهْدِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ ما الَّذِي يَتْرُكُهُ زُهَيْرٌ في قَوْلِهِ : دَعْ ذَا، فَاسْتَقْدَمَ أُسْتاذّهُ الْمُفَضَّلَ الضَّبِّيَّ وَسَأَلَهُ ما الَّذِي تَرَكَهُ زُهَيْرٌ.

قالَ الْمُفَضَّلُ: وَاللَّهِ يا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ لَمْ تَمُرَّ مَعِي؛ الظَّاهِرُ أنَّهُ كَانَ يُفَكِّرُ في شَيْْءٍ أوْ قَصِيَدَةٍ يَقُولُها ثُمَّ عَزَفَ عَنْهَا، وَتَذًكَّرَ كَرَمَ هَرِمٍ وَفَضلَهُ فَقالَ : دَعْ عَنكَ. وَهَذا يُسَمَّى حُسْنَ التَّخَلُّصِ.

سَمِعَ حَمّادٌ الرّاوِيَةُ بِاسْتِفْهامِ الخَليفَةِ الْمُفَضَّلَ الضَّبِّيَّ فَنَظَمَ ثَلَاثَةَ أَبْياتٍ، وَبَدَأَ الْقَصِيدَةَ بِهِنَّ وَقالَ:

- لِمَنِ الدِّيارُ بِقُنَّةِ الْحِجْرِ         أَقْوَيْنَ  مِنْ حِجَجٍ  وَمِنْ  دَهِرِ

(قِنَّةُ الْحِجْرِ: اسْمُ مَكانٍ؛ أَقْوِيْنَ: خَلَوْنَ مِنَ الإنْسانِ؛ الْحِجَجُ: السِّنُونَ. أَيْ بَلِينَ بِمَرِّ السِّنِينَ وَالأَزْمِنَةِ) 

- لَعِبَ الارِّياحُ بِها وَغَيَّرَها        بَعْدِي سَوافي الْمورِ وَالْقَطْرِ

(بَعْدِي: أَيْ بَعْدَ زِيارَتِي دارَ الْحَبيبَةِ؛ سَوافي المور: ما تَسْفيهِ الرِّيحُ مِنَ الرَّمْلِ النَّاعِمِ يُغَطِّي الأَطْلالَ؛ القَطْرُ: الْمَطَرُ)

- قَفْرًا بِمُنْدَفَعِ النَّحائِتِ مِنْ        ضَفَوَى أُلاتِ الضَّالِ وَالسِّدْرِ

(القَفْرُ: الْجافُّ؛ المُنْدَفَعُ: اندِفاعُ ماءُ الْمَطَرِ في الأَوْدِيَةِ؛ النَّحائِتُ: اسمُ آبارِ مِياهٍ في مِنْطَقَةٍ تُسَمَّى النَّحائِتَ، ضَفَوَى: اسْمُ مَكانٍ ، الضّالُ السِّدْرُ الْبَرِّي، والسِّدْرُ: شَجَرُ النَّبْقِ وَهُوَ الدُّومُ يُؤكَلُ ثَمَرُهُ)

اِسْتَأْذَنَ حَمّادٌ الرّاوِيَةُ عَلَى الْمَهْدِي، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقَصِيدَةَ بِزِيادَةِ الأَبْياتِ، وَقالَ لُهُ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ، تَخَلَّصَ زُهَيْرٌ مِنَ الوُقُوفِ عَلى الأطْلالِ لِيَبْدَأَ بِمَدْحِ هَرِمٍ. 

قالَ الْمَهْدِي: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ الَّذي لا إلَهَ إلّا هُوَ مَنْ أَضافَ هَذِهِ الأَبْياتَ؟ قالَ: أَنا. فَأَبْعَدَهُ الْمَهْدِي وَصَدَّقَ أُستاذَهُ الْمُفَضَّلَ.

وَكانَ الرَّشيدُ حَريصًا عَلَى الضَّبْطِ اللُّغَوِيِّ ، وَتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَفْواهِ الأَعْرابِ الفُصَحاءِ، بِدافِعٍ مِنْ أَبيهِ الْمَهْدِيِّ، وَكانَ شاعِرًا يَعْشَقُ الشِّعْرَ. فَاخْتَلَفَ يَوْمًا مَعَ السَّيِّدَةِ زُبَيْدَةَ عَلَى كَلِمَةٍ في بِيْتٍ مَعْروفٍ لِجِرِيرٍ هُوَ:

إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي في طَرْفِها حَوَرٌ        قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلانا

قالَتْ زُبَيْدَةُ: يُجْنِنَّ قَتْلانا. وَأَصَرَّ الرَّشيدُ عَلَى يُحْيِينَ. فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَسْرورٍا الْخَادِمَ إلَى الْكِسائِيِّ في الْكُوفَةِ لِيَحْكُمَ في الِمَسْأَلَةِ. فَصَوَّبَ الاثْنَيْنِ.

وَمَعْنَى يَجْنُنَّ يَدْفِنَّ وَيَقْبُرْنَ.

أُولَئِكَ قَوْمٌ دَرَجُوا عَلَى حُبِّ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ وَالشِّعِْرِ، وَمَعَ إنْشاءِ الرَّشيد لِبَيْتِ الْحِكْمَةِ أَصْبَحَتِ الْعَرَبِيَّةُ لَغَةَ الثَّقافِةِ في العالَمِ أَجْمَعَ.


عن محرر المقال

ليلى احمد

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية