قراءة في ( نبقة وحيدة.. وفرع عال).
__________
أنت نسيج وحدك . لك لغتك وأسلوبك الفريد الذي لا يشبه أحد .. وسر الألق والتوهج في نصوصك يكمن في معايشتك للتجربة القصصية, وتماهيك مع شخصياتك, فالولد موجود بذاته , لا يروي حياته, بل يمارسها.. أحلامه , وعشقه, وآلامه . مشاعر تتدفق طازجة لا يعوقها اصطناع ولا تكلف. كيف يمكنك تطويع اللغة الخرساء لتعبر عن عمق الشعور؟ . إنه الاستسلام للتجربة لتحملك كموجة تعلو تارة, وتهبط تارة . وأراك تسبح مع التجربة القصصية كأنك طاف فوق تلك الموجة, لا تدعي مهارة, ولا تفتعل شطارة, فإذا التجربة تحكي نفسها ببساطة عن طريق وسيط طيع ليس هو الكاتب , ولا الراوي. بل الشعور الإنساني المشترك بين البشر..
التوق, والخسران, والأمل. مشاعر تضطرم في نفس الفتى.
وتوجهه بالخطاب تارة للحبيبة, وتارة للجدة عبر بعمق عن هواجسه تجاه الغريب الذي يصنع ناس الجريد. هو يهدي البلح للحبيبة, وهي تضعه في حجر الغريب مع أنفاسها, ولهفة عينيها, وانسدال ضفائرها. يمضي الغريب حاملا قلب الحبيبة, وسخط العاشق. ولا يعود .. لتمضي الأشواق في خطوط متوازية لا تتلاقى. تجربة عشق لفتى وحيد
دشدشته الهموم وعصي الأعادي وحش السنابل وطلع النخيل ورفس البهائم وثقل أجولة القمح فوق الظهر المتعب
يسعي لقطف نبقة وحيدة لم يصبها حجر أو تطولها يد, يتمدد كثعبان, ينسلخ بين الفروع محتملا لسع الأشواك, يهديها للحبيبة. تتلفت عيناها على شبح غريب لن يأتي , بينما يقنع هو بالنواة تمجها من فمها مرطبة برضابها, وعبق التراب. وكناسة البيت .
نص جميل , وسيطرة الإيقاع على النص تناسب غنائية التجربة , إذ هي بوح وجداني, وغوص في ذات الشخصية الساردة.
لفتت نظري مفردة " تي " التى استخدمها صديقي الكاتب مرتين كما ذكر صديقي على
وتي جمال الليل تدوس بقايا الضوء
تي عيوني ملء الكون بهجتها ،
وقد وردت اللفظة في القواميس بمعنى اسم إشارة للمفرد المؤنث.
فيكون المعنى " هذه إبل الليل تدوس بقايا النهار " .. و " هذه عيوني..."
ورغم صحة اللفظة لغوياً لم أستسغها وربما كانت هي مظهر التكلف الوحيد في النص.
تحياتي لإبداعك صديقي محمد عبد الحكم .
محسن الطوخي
..........
القصة
.........
نبقةٌ وحيدةٌ .. وفرعٌ عال
محمد عبد الحكم
قطّعي تلك الدجاجة واطعميني، فالغائب حتماً لن يأتي، وشمس النهار تدحرجت خلف التلال، وتي جمال الليل تدوس بقايا الضوء بأخفافٍ ثقال.
منذ الصباح يا بنت العم والهموم تسوقني، أمضي كجمل محملٍ بالمواجع، تدحرجني الرياح وتحتويني المصاطب وبقع الطمي وأعشاب الجسور وتعرجات خطوط الأفاعي على التراب اللدن.
أنكفئ على همّي وصرة من نبق تحبينه، له طعم الحياة وهياج النخيل للطلع، تحاصرني أيادي الصبية، أزيحهم بجسدي المتعب، وألعق بقايا دم ينبثق من لسعات شوك أدمتني وأنا أنتقي الصوابح من النبق، صفراوات كالزبد، متحجرات كأثداء بنات العنب.
هناك في أعلا الشجرة واحدة لم يصبها حجر أو تطلها يد.
أتمدد كثعبان، أنسلخ من بين الفروع والأشواك، لسعات توجعني وأمل يدفعني، سأحتويها بيد متلهفة، أتحسس دفأها وحياة تتفجر فيها، تلك التي تنزلق في فمك، أعبئها بالحكايا وشوقي إليك، كي تبثها عبر دمائك، وأترقب نقاة تنطلق من جمرتي فمك، تحط على التراب، تحمل دفء أنفاسك وشيئاً منك، سأتبعها، حتى لو كنسوا البيت ألف مرة، ألتقطها ويحتويها فمي، عبق هو طعم التراب وكناسة البيت وحلاوة لعابك، سأحتفظ بها في صرة خبأتها بين سباط النخيل، أصعد إليها حين تلوذين بحجرتك والمواويل، وتسحقني الوحدة والبرد وقهقهات العابرين وشارات الأصابع، أتحسسها، تلك التي استحالت صلبة وثقوبها تحوي الحكايا، خشونة ملمسها تدغدغ الروح وتشعل البهجة في صدري المنقبض.
نقاة صغيرة تملأ الفم والروح، ألوكها وذكريات عائلة حملتُ همَّها وأجسادها على النعش، أنفض يدي من لحدهم لإحتضن الأرض والبيت وميراث الجدود، أعض عليها بالنواجذ وأدثرها بروحي، ذكريات أعيدها على مسامع الجدة المتناسية.
- أقعُد واحك.
- أمرك يا جدة.
فتسمع وتنسى وتنام، وأحكي لليل وفضاء البيت وجريد نخيل يتدلى على أسطح البيوت، وطيور تمرق شارخة ستارة الليل وتغيب عبر السواد إلى مكان تعرفه وإلفٍ تألفه.
وأنا والحكي والبيت وجدة نائمة.
وحين يحط عليَّ النوم .. أفتح عيني كالذئب، أترصد الجدران الواطئة خوفاً من أقدام اللصوص وأفواه تريد افتراسك.
يا الجدة قومي ولو نصف نائمة، هدهديني بالأحجيات، ثقيل هو الليل الراقد فوق الدنيا، يعتليني كمارد، يكر عليّ تلال المواجع.
إسمعي يا جدة، أتذكرين يوم الحصاد وفرك السنابل، حكايا الهلالي والبدوي وصلاح الدين والشاطر حسن، وجرناً حملته على ظهري وأنا أبدر المواويل، فتنبت الضحكات في وجهك الطفولي ملء الحقول.
...... أ وووهـــ .. نمتِ يا جدة ..
سأظل أحكي حتى تصافح وجهي شمس الصباح وظهر بنت العم وهي تعدو صوب مكان بعيد.
وها أنا أتدلى من أعلا الشجرة، أعض على ثوب ملأته بالنبق، أهيل العيال وأقسم أن لا أحد يذوق النبق قبلك، كي أتمدد ملء الكون وتندلق دلاء الفرحة في قلبي، ألف ألف فم، لكل فم ألف ألف لسان لا يحكون فرحتي، نوارس وأحصنة وجمال وهوادج، دقات دفوف وطيور تغرد، كلي لا يحتويني وأنا أرى أسنانك تجز وفمك يلوك وعينيك سارحتين في المدى البعيد.
وحين لا تعود عيناك إليّ ... أنكمش، وتضربني الحسرة بآلاف السياط.
وأود لو أن البدوي يحملني على فرسه هناك ... حيث تتلفت عيناك على شبَحٍ غريب لن يأتي.
وأنتظر نقاة ستقذفينها الآن من فمك، تحط على التراب وتدحرجها مكنسة الجدة ويحتضنها فمي.
وأهم لأنهض من بقعة الظل محملاً بالحصاد، تحاصرني الأيدي وعصي البوص وأفواه تريد أن تلتهم الفرحة من قلبي، تنفتح وتنغلق كخشب المشانق، وأسنان تدهس كأحجار الطواحين، حناجر رنانة وأفواه تصرخ بعشرات الألسنة:
ـ هات نبقة يا علي يا عبيط، هات نبقة يا علي يا عبيط.
ويتنامى الضحك بين الغيطان، وتميل النساء على بعضهن حول الأفران بألسنة كالمطارح، يحكين عن ولدٍ مغرم، يحمل عبء عائلة وميراث الكرامة وعبق الجدود وخرائط الحدود وصبر الجمال، تطير الحكايات عبر دخان الأفران ورائحة الخبز وخبطات الأكف فوق العجين وتطوحات ألسنة اللهب ومصمصات الشفاه.
وأجري ... يخونني جسدي الذي دشدشته الهموم وعصي الأعادي وحشّ السنابل وطلع النخيل ورفس البهائم وثقل أجولة القمح فوق الظهر المتعب.
وها أنا قادم يا بنت العم، يسبقني لهاثي ويتبعني صياح الصبية، أتخطى القنوات، وأهيل التراب، أنكفئ وأعتدل، وأنت ما زلت طفلة تتربعين على عرش قلبي، يهدهدني صياحك ونحن ندور بين النخيل، نعبئ ملء حجرينا ونضحك متسع الدنيا، أفرغ ملء حجري بلحاً في حجرك، وأتشمم من قرب أنفاسك الدافئة ورذاذاً يتطاير في وجهي، يمرق النسيم لعوباً فيكشط الحزن عن وجهينا ويرشنا بالبهجة.
وتنطلقين هناك إلى ولدٍ يتكئ على كومة خوص، يشكل بالسعف عروساً، كان بارعاً حدّ الدهشة، يرص عالماً من ناس صنعهم من سعف النخيل، ربما كان يستمع إلى حديثهم، حين يقترب منهم حبواً، يثبت ما انكفأ ويغير من أوضاعهم وشارات أذرعهم، ويجعل بعضهم يقف على ساق واحدة متهيئاً للرحيل، ويحكي عن هؤلاء الذين سيرحل بهم إلى مدن بعيدة.
كنا نضحك ونكبر ويتناثر على وجوهنا زغبٌ أصفر.
وحين تفرغين حجرك المملوء بلحاً في حجره، يتشمم عن قرب أنفاسك، وهج أسنانك، لهفة عينيك، انسدال ضفائرك ورشح العرق على وجهك الخجل ونمنمات الحواجب وارتعاش اللسان.
وكان كل مرة يرحل بين النخيل والجسور وبحر الخلاء الممتد إلى ما لا نهاية، يحمل سلته الخوص معبأة بناسه، يتطوحون في عبط، ويبصون علينا من وراء ظهره المنحني بأجساد متلاصقة وأذرع رخوة ووجوه بلا ملامح.
كان يعود في الصباح لا نعرف من أين أتى، ولماذا تخيَّر نخيلنا بالذات، وارتكن على كومة الخوص ليصنع ناسه، ويعبئ سلته ببلحنا، ويمضي آخذاً معه عينيك، وقلبك، وسخطي.
إيــ يــ يــــه يا بنت العم.
إفرشي ضحكتك على وجه المزارع وترفقي .. كي أستظل بشعر طويل وعينين واسعتين بحجم الدنيا ووجه تفجّر حمرة.
وتأملي وجهي ..
اني لك الدم والسكن، وضمة الحضن حين تقشر ريح الخماسين بهجة الأشجار.
تي عيوني ملء الكون بهجتها، وذا ظهري يسند الباب ساعة عواء الذئاب بين التلال واندلاع السيول، ورنين السيوف ودحرجة القنابل بين الكهوف.
طوال العام، أروح، أجيء، ملأت البيت بفيض الغلال فهام الحمام وهلّل فوق المآذن، وتحدث الناس عن زرعتنا التي فاقت كل الزروع، فمالت علىَّ عيون البنات العائدات من الموارد، يتكبكب الماء من جرارهن، وتطوقني ضفائرهن وغمزات الحواجب.
وما في القلب إلاكِ.
سندتُ العجوز حتى استراحت لصق الجدار، تجتر ذكرياتها، تتحسس بحنوٍ بطة رقدت بجوارها ونعست تحت يدها اللينة، تتأمل ببقايا نور في عينيها ظهري المنحني.
من أخبرها بلهفي عليك فأطلقت تنهيدة من وراء السنين، ورددت مقاطع من سيرة الهلالية، واحتضنت في طرحتها حفنة من تراب البيت الناعم.
هل للعشق رائحة تتشممها الجدة، أم أنها رأت انحناءة ظهري وتوق عيني إليكِ وحجري الممتلئ بالنبق، وراكية النار التي أشعلتُها فعبأت رائحة الشواء فراغات الشوارع.
قطعي تلك الدجاجة وأطعميني، فالليل يدهن المدى بالسواد، وجسدي الضعيف يحتاج لقمة.
وأنت ما زلت تحدقين في بحر الخلاء، تنتظرين ولداً ملأ سلته ببلحناً وولانا ظهره، فسخر منا ناسه الخوص، وتمايلوا ودلدلوا أجساداً متهدلة، ومضى ... بعيداً.
فلا القوافل أخبرت بقدومه ولا ضاربات الودع، ولا اسمه مدرج في حريق القطار.
ما لك إلاي والليل وحكاياتي، زمان الصبا وتطوحات النخيل، وملء الحجور بالنبق والبلح، وأرجوحة البرتقال، وهيل الماء على وجوهنا الضاحكة، بيوت التراب ومختبأ بين السيسبان، عد قروش الظل تحت شجرة الكافور، تتبع النمل حتى الجحور، حضن الجدة الشاردة وأحجيات لا تنقطع، شمس الضحى، وأغنيات الحصاد، ومواويلي التي تتدحرج على طرف اللسان، محبوسة، لن يطلق سراحها سوى ابتسامتك وأسنانك حين تجز في ضحك على نبقات كالزبد.
وحكايات سأظل أقولها حتى تنعس الجدة والبطة وتنعسين والمدى، ليسند ظهري الباب وترتفع عصاي في وجه الليل وعواء الذئاب.