الفن الذي يميل إلى التواري في المنطقة الرمادية
**************
قراءة
للأستاذ: محسن الطوخي
في قصة قمري لصديقة علي
—-------------------------------
كل مرة أقرأ فيها القصة تسري قشعريرة في جسدي رغم مروري بالتجربة في القراءات السابقة.
هذا دليل مادي يعكس صدق التجربة القصصية. صديقة لا تكتب حكايات، بل تغامر بخوض حيوات تقوم بتقمصها والانفعال بها حد المعايشة.
يمكنني رصد بعض العوامل التي تخدم الرائعة صديقة في سبيل تقديم نص قصصي ناضج، وناجح.
- استغراقها في الحدث، وفهمها للشخصية، أظنها تبنيها وتدرسها بعناية قبل أن تطلقها في فضاء القصة.
إلى جانب الفهم العميق للعلاقات التي تربط مابين الشخصيات.
- الاقتصاد في المحسنات اللغوية، فلا فذلكات بلاغية مفتعلة، ولا إزاحات، ولا تشبيهات غير ضرورية..
تحتاج القصة القصيرة فقط إلى لغة صحيحة، تنتقي الكلمات بعناية لتعبر عن المعنى المقصود.
- لا تتدخل صديقة مطلقا ككاتبة في سير الحدث، ولا تمارس وصاية على الشخصية، ولا تتطوع بالشرح أو التعريف بالنوايا أو المقاصد. هي تطرح التجربة مكتفية بدور الوسيط الأمين الذي لا يصادر على خيال القارىء، ولا يوجهه. وهذا يوفر المناخ الصحيح الذي ينبغي أن يكون بين المتلقي والشخصية. لا ينتظر القارىء أن يقدم له الكاتب فهمه للتجربة، إنما يرغب في رؤية الشخصيات تتصرف بطبيعتها في إطار حدث متصاعد لكي يبني رؤيته الخاصة. وهذا بالضبط ماتتقنه صديقة.
- الإضمار الفني المدروس. القدم العارية، والنافذة المغلقة، والنقرات الخفيفة على الزجاج مقدمة بارعة لرسم المكان والحالة النفسية للمرأة. مقدمة تمهد للعالم الغرائبي الذي يحبل به المشهد. وهل أغرب من عالم النفس البشرية التي تترجم العالم بشفرتها المعجزة التي لا تتشابه مع سواها كبصمة الأصبع. من يستطيع أن يجزم إن كان الابن موجودا أو غائبا!. لا سبيل للجزم. حتى صديقة نفسها لم تقطع الشك باليقين.
هذا هو الفن الذي يميل إلى التواري في المنطقة الرمادية. إذا مال النص إلى الحقائق القطعية انتقل إلى حقل الخبر. الإضمار إذن هو وسيلة مخاطبة المنطقة الرمادية لدى المتلقي. تلك المنطقة القادرة على تلقي الفن، واستيعابه، والتمتع به.
قمري
بهدوء شديد، تهمس قدماي لأرض صقيله باردة، أقترب من نافذة تعلو سريره، فيطالعني نور فضي، ينسكب على ملامحه المتعبة ببهاء، ينبع من جبينه بسخاء، أنقر الزجاج؛ فتفرّ حزم ضوئية مبهرة من أناملي.
ـ هل نمت جيدا يا قمري ...؟ هل ارتحت يا بن قلبي؟
يتقلب بقلق ويمسح عينيه؛ فتتكشف دهشة وخوفاً:
ـمن؟
أتقدم بنظراتي المطمئنة وابتسامة أحملّها ما استطعت من حنان
ـ لا تقلق. هذه أنا!
يعدل من وضعية غطائه ويفتح النافذة.
- ادخلي، لم أتيت إلى الشرفة!؟.
يثبت نظراته المشفقة على قدمي الحافيتين قلت بما يشبه الاعتذار: خشيت أن توقظهم رنة الحذاء، أو طرقاتي على بابك.
أجلسُ على حافة سريره، يدنو مني، عطره يلفح كياني.
ـ قطعتِ عليّ حلماً ممتعاً، لكن ليس بأكثر من حضوركِ
ـ تحلم بها أعلم ... متى ستنتهي عزلتك؟
ـحين تعود.
ـ لكنها لن تعود ... هي ماتت لكن ما ذنبي كي تلوّعني؟
ـ أرجوكِ قولي ستعود وإن ذاك الصوت ما كان سوى رعد.
- لن تعود اتفهم هذا ... عد أنت اخرج من عزلتك لأجلي.
تدور أكرة الباب من الخارج؛ فتصدر صوتا مهولا ينخر صدغيّ، كم أمقت هذا الصوت! تمزق الأنوار روحي ... من أنارها بهذه الفجاجة، ودحر ضوء قمري؟ يا للتوحش!
يحول بيني وبين ولدي كمارد يحجب الهواء، أنكمش على نفسي، أتضاءل أمامه إلى هرة صغيرة.
- اتركني معه... أرجوك.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، توقعت أن أجدكِ هنا... متى ستقتنعين؟!.
ـ تمهّل أرجوك، دقيقة فقط كي أغطيّه؛ ليرقد بأمان.
يدفعني بلطف إلى خارج جنتي ، فأتعثر بخطواتي.
بصمت يمسح دموعه، أقدر حزنه الكبير ... المسكين لا يصدق بأن قمرنا لازال يرقد في سريره قرير العين.
صديقة علي / سوريا