-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

الحلول والتماهي في " ثلاثة نقوش محجوبة " فايز محمود .... رائد محمد الحواري

الحلول والتماهي في " ثلاثة نقوش محجوبة " فايز محمود
رائد محمد الحواري



النصوص الجميلة تمتعنا، وأثنا قراءتنا لها لا نريدها ان تنتهي، لنبقى مستمتعين بها ومعها، النصوص التي ضمها كتاب "ثلاثة نقوش محجوبة، من الكتب الاستثنائة التي تؤكد على أن جمالية النص لا تقتصر عن نوعية/جنس معين، فالمتعة يحصل عليها المتلقي بصرف النظر عن جنس الأدب المقدم، وبحيادية أقول أن هذا الكتاب يعد حالة متميزة، لما فيه من لغة، وحالة تماهي بين الناثر وبين محبوبته، وهذا التماهي لم يقتصر على الأفكار فحسب، بل نجده في الألفاظ أيضا.
وبما ان الحديث يدور عن حالة تماهي بين شخصين، فإن المكان الأرضي تم تغيبة، واستبدل بالفضاء/بالشمس/بالقمر/بالنجوم، وهذا يشير إلى أن الكاتب تحرر من الأرض وأصبح كائن سماوي، يعيش ومحبوبته في جنتهما التي وجدها في السماء.
ما جعل الكاتب يتماهي مع المرأة/المحبوبة، هو أنها أحد أهم عناصر التخفيف/الفرح التي يلجأ إليها الأدباء/الشعراء لتخيصهم من ثقل الواقع، يحدثنا الناثر عن حالته قبل أن يتعرف عليها بقوله: "أحس بغربتي، التي تشربتها حتى أنستها، قبل حضورك، لولاك لمت غريبا" ص24، نلاحظ أن الكاتب يعطيها سبب وجوده في الحياة "لمت غريبا"، وهذا يشير إلى حاجته لها، الحاجة الروحية والمادية/الجسدية، من هنا نجده يعطيها (قدسة)، ويتعامل معها ضمن هذا المفهوم، أليست هي من أبقاه حيا؟: " لا أملك إلا خشوعي، وغير توحدي لأجلك يسكن صمت المطلق ويهمس في أشكال التحولات عبر صيروتها الحركية المستسرة/ فأدنو إليك، ليس ذليلا، ولكنه الحلم فيك جليلا يطامنني فتنتابني رهبة، أتقدم خطوة وأسحب خطوي أراوح في مكاني، واتمحي المسافات في دخيلتي، كونك يغمرني، وتصبحين قطرة البحر وعبابه ومحيطه اللآنهائي الضفاف" ص24، نلاحظ أن المرأة/المحبوبة تتداخل صورتها العادية/المادية مع صورة المقدس، لكنه بعد أن يتوحد معها، يتخلص من طبيتها (العادية/المادية) ويتعامل معها ككأئن سماوي: "أصعد بصري نحو شمسك الحنون، لا يفوتني قط أن هذا النور الذي أفيء إليه، سعير مضطرم يصلي من لا ينبعث من لمه سحابات حبك" ص25، فرغم أن فكرة السماء واضحة، إلا أن الكاتب يستخدم ألفاظ تؤكد على قوة حضور المرأة/الحبية: "بصري، شمسك، النور، سحابات" فكل هذه الألفاظ متعلقة بالفضاء/بالسماء، وهذا يشير إلى أثرها عليه، وعلى مكانتها المقدسة لهذا جعلها سماوية.
ولكن طبيعة الإنسان لا تجعله يتخلى عن افكاره مرة واحدة أو فجأة، لهذا لا بد من مراحل يمر بها الفكر حتى ينضج ويكتمل، يخبرنا الناثر عن عملية التفكير والتحول الذي حدث له: "أيمكن أن يحمل اللحم والدم كل هذا المدى من النور فيك، من الطيبة فيك، من الفطنة من السماحة من الوجد، من الشوق الإلهام الجمال الذكاء القوة فيك...أخالسك اللفتة، يبهرني، ينفجر النور في مقلتي، يتشكل من ثم بروعتك، يعنرني بسر الحياة الشجي، فأصدح بما يعتليني من حبور، لا أعود أبصر إلاك، تحترق الصور جميعا، وترتسمين في الآفاق الأربع صورة كل الجهات" ص28، في هذا المقطع يخبرنا أنه كائن أرضي لم يصل بعد إلى استيعاب عالم السماء/الفضاء، لهذا يطرح تساؤلات حول علاقة الجسد بالنور، وهذه الأسئلة مشروعة، لأنها ستجعله ـ لاحقا، بعد ان يستوعبها ـ يتماهي معها، مع المحبوبة، من خلال الحول فيها، فيشكلان معا حالة تجمع بين الروح والجسد.
يتقدم الكاتب خطوة أخرى نحو المرأة/الحبيبة، لما وجد فيها من خلاص وتحرر من ثقل الأرض وما عليها: "خذيني إلى حيث اللآرجعة، خذيني نحو شمسك، نحوها هناك حتى تتلاشى الحياة والموت.
..أستندي فيضك، أحسوه بكفي ماء الخلود، أبل ريقي.. فأحيا لك طول الحياة" ص31، الجميل في هذا المقطع أنه متكامل ومتواصل ومتسلسل، بداية يتحدث عن حاجتة إلى الخلاص: "خذيني إلى حيث اللآرجعة"، من الأرض، وليكون في السماء: "خذيني نحو شمسك"، ليكون خالدا معها: "ماء الخلود"، ولم يقتصر الهدف على الخلود بصفته المفردة، بل يريده خلودا لها: "فأحيا لك طول الحياة".
ونلاحظ ان هناك الفاظ استخدمها الناثر تؤكد على فكرة الخلود: "ماء، الخلود، أبل، ريقي، فأحيا، الحياة"، وهي يشير إلى أنه متوحد/منسجم مع الأفكار/المضمون الذي يحمله المقطع، وهذا سيكون ـ تدريبا له ـ ليحل/يتماهي مع المرأة/الحبيبة لاحقا.
يحدثنا الأديب عن طريقه للإكتمال معها بقوله: "من أين أعبر في عريي إليك، دون أن تقتحمني أنظار سواك، خذيني ليس إلاك كمالي... كلما أدلجت في تسيارك عدت إليك... أنهل من طفحك الزمزم كؤوس نداك، يجللني فجرك حتى مسائي الأخير، فأوسديني حضنك، لا يسعني سواه وقد عص صدري بنبع الخلود الذي اسقيتنيه" ص33، نلاحظ مجموعة ألفاظ تشير إليها: "سواك، إلاك، تسيارك، طفحك، فجرك، فأوسديني، حضنك، سواه، أسقيتنيه" وهذا يؤكد على رغبته الجامحة نحوها، وإلى أنه يريدها كجزء منه، من هنا نجده يستخدم ألفاظ: "الزمزم، يجللني" اللتان يتلاقها فيها حروف الميم والزين، واللام، فعقله الباطن ـ المندفع نحوها ـ يجعله يستخدم هاتين الكلمتين، وهذا يؤكد على رغبته وندفاعه نحو المرأة/الحبيبة.
وهناك خطوة جميلة نحو التوحد معها: "أني أصمت بين يديك، وأغالب بحانك ضعفي وما يقهرني من أسباب، فألقي بكليتي فيك، ...أحسها عندئذ تذوب كما الشمع بحرارة قربك كلما التصقت بك أكثر" ص34، اللافت أن الناثر بدأ يتقدم بشكل سليم نحو الحلول/التماهي، من هنا يقدم صورة الشمع، ورغم وجود شيء من المادة "التصقت" إلا انها تبقى خطوة مهمة نحو الحلول/التماهي الذي يسير إليه بخطى ثابته وصحيحة.
"أعشق لهيب شمسك، يا نهاري الذي لا يفل، أعشقه بجماع أنفاسي المتعلقة بشعاعك" ص36، هناك مجموعة ألفاظ تشير التقدم الصحيح نحو السماء: "شمسك، نهاري، بشعاعك"، وألفاظ متعلقة بالحلول: "أعشق/أعشقه"، كما أن لفظ "المتعلقة" يخدم فكرة الحلول، وهذه المقطع يعد خطوة متقدمة نحو الكمال والتماهي.
أفضل صورة للتماهي هي صورة الماء، الذي لا يمكننا أن نفصله عن بعضه، يقدم لنا الناثر هذه الصورة: "يبلغ فيك مصبه، يدور الآن استدارته كما في بدئه يجري زلالا، وفيك أروم ابتعاثي الحياة، من مائك تجعليني وفق شفافية تكوينك، ...أني أحبك ـ صوت الرياح زفيري ، ورعد الغيوم وبرقها صهيل "براقي" ووقع سنابك جريه في مدارك، هذي المجرات أضعلي تتقاذف في تيار الكون، وسعته مصبا وعودا لصفائه النبع الأول.
أتحدر فيك مصبي
أهمي مطر، يعتصرني انجذابي انجذابك الكلي إليك، وقد شديتني من قبل ديمة تختزن شوقك المتبعثر في أرجاء العاصفة." ص40، وجود ألفاظ متعلقة بالماء: "مصبه، يجري، زلالا، مائك، رعد، الغيوم، برقها، جريه، مصبا، البنع، مصبي، أهمي، مطر، يعتصرني" تخدم فكر الماء/المطر، فرغم أنها متباينة ومختلفة إلا أنها تعطي معنى المطر/الماء سبب الحياة على الأرض، واللافت في هذه المقطع أن الناثر يعطي نفسه صفات البعل، راكب السحب، وهذا يشير إلى أنه أصبح يمتلك شيء من صفات السماء، وعلى أنه تأثر بالشمس/بالفضاء الذي منحته إياه، فأصبح مثلها: و" أتيك، شمسك تشرق في قلبي، تتطاير كل سمائي شعاعا" ص50، فالتحرر من الأرض جعلهما يسكنان السماء ويكونان جزء منها: "...أن أكون مركز فلكك الشمسي قمر يستمد منك ضوئه...دعيني في عين شمسك" ص53، نلاحظ أن هناك تقدم سريع نحو القضاء/الشمس، فهي عالمه الآن، فبدا وكأنه مبهور/منذهله به، لهذا يكثر الحديث عنه، فقد أصبح جزء من السماء/الشمس/الفضاء.
وعن حالة الحلول/التماهي التي وصل إليها، يقدمها لنا بصور أرضية، بالمفهوم الأرضي الذي نعرفه: "هل سيكون بمقدوري أن أغدو بحرا يتسع لنبعك الزلال الفياض.. أعانق مدك بي، وإذ أمتلئ وأترامى: لا أشعر بالعجز حيالك تماما، لكني لكم أكبر وأعظم وأحس بجمالي ـ كلما تكونت منك محيطا متلاطما بالحياة والحب والقوة ورورح الإبداع" ص71، بهذه الصورة يكتمل الحول، الذي نراه بديمومة جريان النهر وصبه في المحيط/البحر، والقصد من الصورة الأرضية، حثنا نحن المتلقين الأرضيين لنحذوا حذوة، ولنتخلص من الأرض ونحلق في السماء متوحدين/متماهين مع من نحب.
الكتاب من منشورات دار النسر للنشر والتوزيع، عمان، الأردنن الطبعة الأولى1989.

عن محرر المقال

aarb313@gmail.com

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية