النص
غزوة عبيد وسعيد
عمر حمَّش
لم يتخيل أحد ما كان سيحدثُ حينما مرّ المختارُ بعربةِ الكنافة الشامية .. كنت في شمس باب كوخنا حين تمتم أبي:
هذا الرجلُ كان أهم بائع كنافة في يافا!
صرّت دواليبُ الخشب على الرمل، وقابلني دولابٌ أخذ ينفرد، وأنفاس المختار المتقطعة تدفعُ العربةَ، وتنادي:
كنايف!
ثمَّ يُتبع صوته بصوت بوقِه: طوط!
وأبي يقول: آه ... يا زمان!
لم أفهم .. فقط كنت أسمع في صوتِ أبي رعدًا، وأرى حريقا .. كنتُ أحسّ من تنهيداتِه أن شيئا عظيما قبل أن أجيء أنا؛ كان قد حدث، شيئا استثناء مغايرا للطبيعة، أقدّرُ أن خسفا وقع، وأن شمسا تبعثرت!
كان المختار يقترب، وأبي يقول:
هذا الرجلُ ... كان على أريكةِ حانوته؛ يداعبُ نرجيلته، ويهزّ طربوشه للحسان المتأبطات أذرع الأكابر!
ويزفرُ أبي ... وأزفرُ أنا في لغزي المبكّر، أفهم، ولا أفهم .. وأحترق ..!
في لحظةٍ جاء سعيد وعبيد .. اقتربا، حتى جاورا العربة..
كانا أسمرين كالطين، نحيفين مثل غصنين، معفرين بلا أهل .. قيل: مات ذووهم في قصف القرية .. وقيل: ضيعتهم طريق الهجرة!
قال أبي: من أين لهما ليشتريا الكنافة!
لكنا رأينا عبيد يحمل الصينية، ويجري..هرول وهي على رأسِه، ثمَّ أخذ يصعد سفح التلّة، صاح أبي، وصحتُ أنا، وصاحت النسوةُ من على صنبور الماء ... وصاحت الدنيا، لكن عبيد ظل يصعد، وجسدُ المختار يتنقل .. بعدها فوجئنا بالصينية الأخرى على رأس سعيد، رأيناهُ هوى مثل طيرٍ، والتقطها كحبة قمح، ثمَّ شرع هو الآخر يصعد التلّة المقابلة .. تجمعت الأولاد، صاحوا: سعيد وعبيد!
كان الاثنان هناك متقابلين حيثُ لا أحد ... على الرمل الأصفر البكر .. ورأيتُ من بعيدٍ عصافير شرعت تأتي، لتحلّق فوق رأسيهما، وهما منكبان كلٌّ منهما على غنيمتِه، علنا ساعة الظهر الحمراء .. يأكلان متباعدين مثل بطلين .. ونحنُ تحتهما في حيرة .. المختار .. والرجالُ .. والأولاد .. والنساء .. الدنيا كلها كانت في حيرة!
انتظرنا .. ساعة .. ثم ساعةً .. صاغرين .. المختار يلهث .. ونحن نلهثُ ..!
نادى المختار: ارميا الفارغ!
ونادى أبي .. ونادت الحارة!
ففوجئنا بعبيد من فوقنا يصيح: سلّموا .. نسلّم!
قال أبي: ماذا؟
صاح: الشبشب!
ضحكنا، حتى كدنا نموت .. حتى المختار ضحك، واهتزت بطنه .. ابتعدنا عن شبشب عبيد .. لكنه قال: أكثر ... فزدنا له المسافة .. حينها نزل حذرا على رأسه الصينية الفارغة .. اقترب حتى التقط شبشبه، ثمَّ فرَّ إلى التلّة، أمّا سعيدٌ فهو الآخر رمانا بصينيته؛ فجاءتنا حافتها تدور مثل سكين ...!
عاد المختار يدفعُ عربته .. وعدتُ أنا؛ أرقب تراخيَ الدولاب، وأسمع صريره المغادر ... وأبي الذي كان بعينيه يشيعُ المختار؛ عاد يقول: آه يا زمان!
عمر حمش ٢٥سبتمبر٢٠٢١
............
القراءة/ محمد البنا
عودٌ على بدء.. ما بدأ به السارد أقصوصته أنهاها به، وكأن الزمن لم يمر، وكأن التاريخ يعيد نفسه تكرارا مملا لا أمل فيه ولا عبرة يعتبرها سامع او مشاهد..سعيد وعبيد ما زالا يعتليان التلة، والجموع تنظر في بلاهة بعد نوبة صراخ، والمختار تائه يبحث عن هوية، والأب يقتعد المصطبة يمصمص شفتيه آسفًا على زمن مضى، دون أن يحرك ساكنا، فنحن (كنا) وما زلنا ( كنا)، وفي خاتمة مذهلة ذهول المستحيل حين تحقق، وسنظل ( كنا )..مأسأة أمة وليس قرية مقصوفة او مدينة مجهضة ( يافا) او وطنًا وأدوه بل أمة كاملة..كغثاء السيل، فلا جيل يعلم جيلا ويأخذ بيده إلى أعلى التلة، بل تركه يهوي في ظلمات وظلمات، وانجبه في صحراء تيه لا زرع فيها ولا ماء...عود على بدء وكأننا نشاهد فيلما تراجيديا فنبكي ونبكي ونبكي، وعندما ينتهي نسارع بأعادة تدويره كيلا تجف دموعنا!!
تقنية التدوير هى بطل النص بلا منازع، ويشد على عضدها السخرية المبطنة من كل شيء التي فاض بها المتن السردي، (طوط) أراها طز وطز، واراها آسفًا طامة وطامة، فما اكثر طاماتنا!!
.سخرية مننا جمعيا لم تستثني احدا حتى السارد نفسه.
ترميز بالغ الدقة متبعًا سيمائيات ناقصة أحد أضلاعها الثلاثة، ليكمل المتلقي غلق المثلث وفق قدرته الذهنية والتخيلية، ليستنبط الدلالة المرجوة، وليترك الباب مفتوحًا لاسقاط الرموز على واقع معاش مهين وخانع، فبين راءٍ لسعيد وعبيد رمزا للاحتلال، وبين راءٍ لهما رمزًا لقيادتين اعتليا التلة أحدهما وقع أوسلو ( الشبشب ) وآخر وقع وثيقة التنسيق الأمني( حد الصينية، الذي يتجه مباشرة نحو جز الرقاب) في إشارة خفية إلى أحداث سجن جلبوع وما أعقبه من وشاية...يبحر كل متلقي وفق منظوره.