قصة قصيرة
الفجوة الزرقاء
تسكبُ صوتها العذب مع الماء السّاخن فوق رأسي:
"يا زريف الطول وين رايح تروح
بقلب بلادنا تعبقت الجروح
يا زريف الطول وقف تاقولك
رايح عالغربة وفلسطين أحسنلك"
يعلُو صوتُ بكائِي؛ تحاولُ أن تشغلني بأمرٍ ما:
- يمّا شُوف بالسَّكف فجوة وَ حمامة.!!
أنظرُ للأعلى، تمرّرُ صابونتها تحت رقبتي بخفّةٍ؛ أضحكُ لأنّها كانت تكذبُ عليَّ دائماً ذات الكذبة، وأصدّقها.
ينتهي الحمّام السّاخن، تلفّني أمّي بمنشفةٍ صغيرةٍ، تطلب منّي أن أدفن رأسي بين ذراعيها؛ كي لا يلفحني
الهواء البارد، ثمّ تحملني بسرعةٍ إلى غرفة نومها.
أبي يتمدّد فوق سريره، ينفث السّجائر، يتنهّد تنهيدة عميقة، يخاطب أمّي:
-"اليهود صارو بنُص دارنا يا أم جاسم، والحرب عالبواب."
-ألي مكتوب عالجبين تشوفه العين يا بُو جاسم.
-معقول...!ندير كفانا للدّبابير ، و نكول حظ وتكادير..مالناش غير الجهاد يا أم جاسم.
سقطت كلمته في أذني طلقة، ثمّ أزهرت في كفّي بندقيّة. تطوعت مع جيش التحرير العربي في فلسطين... بعد حرب النكبة مررت قرب دارنا المهدّمة، خلعت نعلي العسكري، دخلت الحمام ذاته، جلست على المقعد ذاته. صنابير الماء المنزوعة تتقاطر دماً فوق وجهي، والهواء البارد يلفحني ، أسألها بصوتٍ عالٍ:
-"يمّا وين منشفتي...؟!"
أرهف السّمع عساني أسمع صوتها بين أزيز الطائرات ..
أنظر للسّقف المهدم مخاطبا":
-يمّا... أخيراً شُفتها... الفجوة الزركا بالسّكف.
تهدلُ بحزنٍ، و تحلقُ من ذات الفجوة حمامة بيضاء.