مذكرات رجل شرقي
كارثة على باب مدرسة
أمطرت السماء بغزارة عصر اليوم لكن ليس ماءً بل وابلا من الرصاص والمتفجرات التي أتت من أفق لا يعلمه إلا من كان هناك .
ثلة من العصاة ذوي اللحى الكثة الطويلة بينما هربت شنباتهم تحت وطأة الموسى الحادة ، جال عامر بنظره بين هذا وذاك ، كان يفكر بشيء ما لم يستطع الإفصاح عنه لأسباب خاصة .
عامر شاب في بداية العشرين من العمر ، أبيض الوجه عريض المنكيين واسع العينين بطريقة عجيبة ، شعره الأسود يلامس ظهره لكنه لم يمتلك لحية كثيفة كالباقين ، أترى هذا ما كان يشغل باله في تلك النظرات المتأففة إلى أفراد الثلة !!! ...
استلم بندقية حربية لأول مرة في حياته، ارتدى بزة مختلفة لم يألفها من قبل ، فيها بعض القنابل وجهاز لاسلكي وبعض الحبوب التي لم يعرف سبب وجودها في جيب البذة .
انقضى موعد العصر بعد أن قام الجميع بأداء فريضة ليست لهم لكنه فعل كما يفعل هؤلاء ( الزملاء ) دون أي اعتراض ، بعد قليل كان هناك شخص أربعيني يدربه على كيفية استخدام البندقية وطريقة التصويب إلى الهدف وتفاجأ كثيرا عندما عرف بأن الرصاص يمكن أن يخرج تدريجيا أو دفعة واحدة لكن بقي السؤال يلح في رأسه فسأل معلمه الأربعيني : ( وماذا عن هذه الحبوب يا معلم ) ... ضحك الرجل الملتحي من سؤاله : ( لا عليك ستعلم ذلك فيما بعد يا عامر ... الآن عليك أن تثبت قدرتك على التعامل مع الأهداف فقط ) ...
انتهى الدرس الأول إثر ساعة من الزمن ، ذهب كل واحد منهما إلى وجهة مغايرة ، لجأ عامر الشاب إلى ظل شجرة جوز معمرة وبدأ يدندن بأغنية حفظها عن والده عندما كان يشاركه العمل في الحقل ، تلك الأغنية جلبت معها صورة أفراد أسرته واحدا واحدا ، حتى مرت صورة والده الذي طالما احتضنه وسرد عليه الحكايا قبل النوم ، وقطع السكاكر التي كانت تقطن جيب شرواله فيعطيه منها ما يشاء لاسيما عندما يريد أن يراضيه من صفعة أو شتيمة لتقصيره في دروسه أو عدم أداءه واجبه كما يجب في الحقل الكبير .
سمع صوت ثلاث رصاصات كانت علامة للاجتماع مع ثلة العصاة ، ترك شجرة الجوز بعد أن حفر على جذعها عبارة تذكارية ، لعله كان يعلم بأنه ربما لن يراها بعد اليوم ثم انطلق إلى مكان الاجتماع في وقت كانت الشمس تسقط خلف الأفق معلنة نهاية اليوم الأول من التحاقه بالعمل الجديد .
في الساحة كان الكل هناك على أهبة الاستعداد لتنفيذ الأوامر ، لا مناص من التهرب أو حتى التلكؤ فالعقاب ينتظر من تسول له نفسه غير ذلك ، اجتماع قصير انتهى بقرار صدر عن الثلة ( سوف يتم تنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص برجل مارق بعد قليل ) ... ساد الصمت على البعض بينما هلل البعض الآخر مرحبا بالأمر .
( يا رباه كيف سنعدم رجلا ... ماذا فعل هذا الرجل ) كان عامر يحدث نفسه .
التفت الزعيم فجأة إلى عامر الذي كان يطأطئ رأسه صوب الأرض ( أنت من سينفذ الأمر أيها الشاب ) لم يكن قد حفظ اسمه بعد ، وقعت كلماته على عامر كالصاعقة ( أنا ... أنا ... ألا يوجد غيري لتنفيذ ذلك يا زعيم ) صرخ عامر ، رمقه الرجل بنظرة كالسكين ثم أومأ للثلة بإتباعه .
على باب مدرسة القرية كان كل شيء جاهزا ، رجل مغطى الوجه ، مكبل اليدين والقدمين ، ثوب برتقالي اللون يسقط على جسده، رأسه مرفوعا نحو السماء ، كان يتعمد ذلك رغم اللكمات التي انهمرت على رأسه وضربات أخمص بندقية جاءت لتزيد المشهد رعبا على رأس الشاب لكنه لم يحن رأسه ولو للحظة ، أيقن بأن الموت آت لا محالة فلما الانحناء إذن !!! ...
وقف عامر على بعد أمتار قليلة من الرجل ، جهز بندقيته دراكا ، صوبها باتجاه قلب الرجل منتظرا أن يأتيه أمر الإطلاق .
لم يتأخر زعيم الثلة في الصراخ ( الآن ... أطلق أيها الشاب ) ...
كبس عامر إصبعه على الزناد ( مرة ... اثنتان ... ثلاثة ) استقرت طلقتان في قلب الرجل ، خرج الدم أحمرا باكيا، الآن فقط انحنى رأسه إلى الأسفل ، جاء الأمر التالي : ( اقترب منه وأطلق رصاصة على رأسه ثم اكشف عن وجهه ) ، تكسرت خطوات عامر وهو يدنو رويدا رويدا من الرجل الذي مازال يمتلك شيئا من الحياة ، أطلق رصاصة رابعة لكن هذه المرة على رأسه ، سمع أنينا خافتا أصابه بالذعر فحاول الإبتعاد عن الرجل لكن نهره أحدهم بفوهة البندقية ( هيا اكشف عن وجهه حالا ... عليك أن تكون قاسيا مع الأعداء ) ... وضع البندقية على كتفه ثم بدأ بالكشف عن الوجه بهدوء وخوف .
لم تمض أكثر من ثوان قليلة حتى أطلق صرخة مدوية وهو يرتمي على الرجل الذي لم يصبح جثة بعد ، ضحك الجميع ساخرين منه ، عندما التقت عيناه بنظرات الرجل البرتقالي لآخر مرة كانت السماء في طريقها للسقوط .
استدار إلى الثلة بعد أن حول إطلاق الرصاص ( رشا ) .
وليد.ع.العايش