-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

قراءة الناقد أ.محسن الطوخي في قصة تكوين لـ أ.عبد الكريم الساعدي..من الفن مايتسامي بك ويجعلك تحلق مع نفحة الروح.ومنه ما يغمرك في كثافة الطين الذي منه خلقت.

 

قراءة الناقد أ.محسن الطوخي في قصة تكوين  لـ أ.عبد الكريم الساعدي

القراءة النقدية:

من الفن مايتسامي بك ويجعلك تحلق مع نفحة الروح.ومنه ما يغمرك في كثافة الطين الذي منه خلقت.

ما يوجه الوعي ليس الصورة، ولا الموضوع. لكنه الذهنية التي تهيمن على السرد، العقلية المثقفة، المتشبعة بالروح الإنسانية، والمتعلقة بالمثل الأعلى، تسطع مكوناتها على مفاصل النص الادبي فتشيع فيه مايرتفع بوجدان القارىء إلى نفس العتبة التي ينظر منها الكاتب إلى الكون.

لا تملك وأنت تطالع نص تكوين إلا أن تتسامى بوجدانك حتى تلامس - إن أردت - تخوم إرهاصات الخلق بالمعني الميتافيزيقي.

تشبعك نصوص عبد الكريم الساعدي على مستويين.

مستوى اللغة المسبوكة بعناية.

ومستوى المعني، والفكرة التي تدعوك للتأمل.

العنوان

تكوين: فعل يتضمن معاني الإيجاد من العدم، وهو فعل الخلق على المستوى الميتافيزيقي. كما يتضمن معاني الإبداع والابتكار وهما من افعال الإنسان على المستوى الواقعي الفيزيقي.

الخلق: الإيجاد من العدم / الابتكار/ الإبداع .( قاموس المعاني ).

واللفظ " تكوين " في ذات الوقت مصدر يعني الصورة، أو البنية، أو الهيئة.

والعنوان كعتبة للنص يؤهل القارىء لمعالجة ذهنية يماهي فيها بين الفعل البشري الجمالي الذي لا يستهدف منفعة، وبين الهبة الإلهية التي بموجبها أوجد الله الكائنات.

يتأمل الكاتب دور النحات في عملية الخلق الفني، ويستحضر من خلال الاستهلال البارع فكرة الخلق الإلهي من خلال الألفاظ الدالة. وهو بذلك يدفع ذهن القارىء إلى عملية انتقال مدهشة بين فكرتين تقع كل منهما على أقصى طرف من مسار الواقعي/ الغيبي.

فينقسم الاستهلال إلى جزئين يسبقهما العنوان مزدوج الدلالة. نجد في القسم الاول منه الدوال الآتية والتي تتماهى مع الدلالة الميتافيزيقية للعنوان:

الكتلة: وهي القبضة، وارتباطها في النص بالطين يحيل إلى التصور القرٱني لخلق الإنسان " ولقد خلقنا الإنسان من حمأ مسنون- الحجر ٢٦ " .

وهي ذات الإحالة الى التصور التوراتي " وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض - التكوين ٢:٧ ".

ولا يمكن اغفال ماللفظ من مخزون معرفي يوسع من دلالته في مقام الخلق، إذ الكتلة في الفيزياء هي مخزن الطاقة

حرى: والكلمة معجميا تعني اليبس والجفاف. فهي تأنيث " حران"

كقول جميل بثينة:

ألا تتقين الله في قتل عاشق

له كبد حرى عليك تقطع.

يريد أنها لشدة حرها قد عطشت ويبست.

وهي تقريب للمعني القرٱني في مقام الخلق " إنا خلقناهم من طين لازب "

فاللازب هو الطين المتماسك .فلزب الطين أي لزق، وصلب. وإنما ينتج ذلك عن الجفاف واليبس.

مرمي: ( الاقصاء مع تحقق الوجود ) .

فالفعل رمي يعني ألقى وقذف، أو دفع من يده وهي معان تتضمن الإهمال والزهد في الشىء. لكن الصفة منه مبنية للمجهول تعني الانتظار والتشوف، فهو إذن كاللقية، يزهد فيها الرامي، ويفرح بها الواجد. كحال الطين في مهانته، يكتسب شرفا، وقيمة بفعل التكوين.

قرب: والقرب في اللغة يعني الدنو.

ويكتسب لدى الصوفية دلالة تشير إلى الأحوال التي هي فيوضات ربانية على العبد السالك مسالك الصالحين.

حديقة: لفظ مرتبط بالماء الجاري، والزهر، والأفنان. يحيل الذهن إلى جنة الخلد.

ثم ينتقل الكاتب بنعومة بخيال المتلقي من الأزلى إلى الواقعي بنفس التكنيك، استدعاء الحالة بالألفاظ الدالة.

شفرات . قطعة خشبية . بلاستيكية . شمعة . أزهار صناعية ..

ثم يبدأ المشهد القصصي بعد أن يكون القارىء مستعدا لاستقباله برؤية تتجاوز حدود الفيزيقي إلى الميتافيزيقي. من المادي إلى الغيبي.

والحدث بسيط، يحكي عن مثالة تعالج كتلة من الطين لتشكلها على صورة شخص ما.

لكن شحنة الدلالات التي بثها الكاتب الجميل خلال الاستهلال تم توظيفها بعناية لتشكيل وعي القارىء، وتوجيهه في الاتجاه الذي يحقق مرامي النص. ولهذا حديث آخر .

تحياتي وتقديري لأستاذنا عبد الكريم الساعدي. "

محسن الطوخي / مصر

النص:

تكوين

القاص عبدالكريم الساعدي/ العراق

 

    كنتُ كتلة من طين حري، أوشكت على التحجر، مرمية فوق طاولة صغيرة، قرب نافذة ترتدي ستارة حمراء، تطلّ على حديقة منزل باذخ بالهدوء والسكينة، أشياء تجاورني، شفرات، قطعة خشبية مسطّحة، قطعة بلاستيكية مستطيلة بحجم قبضة اليد، تتوسطها شمعة بيضاء لم ينطفئ فتيلها بعد، آنية من فخار لأزهار صناعية، تتّكئ عليها صورة لفتى وسيم، يرتدي معطفاً أسود، ترتسم على محياه ملامح الحزن، عيناه ترقبان جفافي، تحاصران وجودي بالدمع، أخلع عباءة صمتي، أسأله:

 - من أنت؟

 - لم يُحِرْ جواباً.

الشك يشهر عريه، أحتسي قلقي، خدر الإهمال، جحيم وحدتي، أنزف ما تبقى من بلل، أقبع في ظلام الوحشة، أحلّق في فضاء التذكّر، يا ترى من يكون؟ تبعثرني ريح النسيان، تسكنني الحيرة، ألثم خدّ الأمل، لعلّه ينطق ذات يوم؛ فيبدّد جنون فضولي. في الصباح يوقظني صرير الباب، تدخل امرأة جميلة، تفيض عذوبة ورقّة، يسبقها عطرها، تتجه نحو النافذة، تفتحها، تلتفت نحو الصورة، تمسح ما تعلّق من غبار بها، تبتسم في وجه الفتى الوسيم، تقبّله، تحدّثه همساً، تمتدّ يدها نحوي، تغمرني بدفئها، تسكب قليلاً من الماء عليّ، أخالني أستحمّ بين أناملها، تكوّرني، تستقطع بعضاً منّي، تطوّقني بعينيها، تشكّلني كيفما تشاء، تصنع عنقي، رأسي، وبلمسة سحرية تغرز شفرتها في جزء من رأسي، تحدّق في الصورة، تظهر عيناي، تلوّنهما، تلمسهما، تبرقان بالضياء، أتشكّل كومة من أحلام، تعيد النظر إليه، تصوغ جسدي ثانية، أنفاً حادّاً، شفتين ممتلئتين، تحتضنان نصف ابتسامة، تقبّلهما بشغف، أتوهّج بنبيذ شفتيها، تمسح قطرات العرق من فوق جبينها، أتعرّق، تدثّرني بأنفاسها اللاهثة، بعطرها؛ فتدركني نشوة التكوين، تضعني إلى جانب الصورة، تخرج فرحة.

أسأله:

 - من أنت؟

 لم يُحِرْ جواباً.

أحدّق في المرآة، في الصورة، يتعرّى شكّي، قلقي، أراه خلف دموعي صامتاً، أدنو منه، أبتسم، ضوء الشمعة يعكس ظلاً واحداً:

- كنتُ أنا!

عبد الكريم الساعدي 



عن محرر المقال

صديقة علي

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية