الشخصيات، ومهارة توزيع الأدوار
في القصة القصيرة " انطفاء "
للأديبة/ ميرة كمال ( بوح الياسمين )
____________
عندما تكتب بوح أعرف أنني سوف أعاين تجربة إنسانية صادقة لا أثر فيها لزيف أو افتعال. وأنني سوف أقوم برحلة في ذوات مأزومة تعالج أزماتها بمنطق يتفق مع طبيعة كل شخصية ومخزونها الثقافي والبيئي.
تتناول القصة أفراد أسرة تمتحن بمرض عضال يختار الأبناء. والشخصيات الفاعلة في زمن السرد هم:
- الأم / الأب / الابنة الكبرى
أما الابنة الصغرى فقد عبرت السرد كنغمة الناي الحزينة، نسمعها دون أن نراها. لكن وجودها الضمني هو الذي حول المحنة إلى أزمة تصادمت فيها الإرادات، وانحرفت المشاعر، وتشوهت.
الصراع بين العواطف، والصالح العام، والمنفعة الشخصية. وإرضاء الذات. عاصفة من المشاعر المتضاربة، والمتناقضة استطاعت الكاتبة رصدها في حيز زمني محدود.
العنصر الأكثر بروزا في السرد هو توزيع الأدوار، ليحتدم الصراع على مستويين. صراع ظاهر جلي تبدى في العلاقة بين الأم الراوية، وبين الزوج. وصراع باطني خفي وسم العلاقة بين الأم وبين الابنة الكبرى.
والتبئير الذي عمدت إليه الكاتبة بوضع السرد على لسان الأم مكن القارىء من التعرف على خلجات نفس الأم، واسرارها الباطنة التي انكشفت للقارىء، بينما ظلت خافية عن بقية الشخصيات.
نسيج قصصي مضفر بعناية وروية، يكشف عن عناية، وجدية، وتحضير جيد، وانتهاج خطة.
سنتناول الشخصيات في محاولة للتعرف على ملامح الأزمة من وجهة نظر كل شخصية، ثم من وجهة نظر الراوية.
* الأب: يمثل موقفه الصالح العام، بما يتفق مع موقعه القيادي في الأسرة، وأيضا مع التناول العقلاني للأزمة بمعزل عن فورة العاطفة. فهو يتقبل قرار الاطباء، ويتفهم أن منح الصغيرة كلية الأم لن ينقذها، ومن ثم فالواجب يقتضي منح الكلية للابنة الكبري التي تحظي بفرصة أكبر للنجاة. لكنه يعجز عن اقناع الأم، فيرضخ للأمر دون اقتناع. ويترتب على إهدار الأم لكليتها شرخ في العلاقة بينهما، وهو أمر مفهوم ومنطقي، فقد اساءت إلى قوامته، واتهمته بالتحيز، وجرحت مشاعره، وفاقمت الأزمة إذا صار فقده للابنتين محتملا في ظل ندرة توفر متبرع يتوافق مع انسجة الكبرى. بينما بدا تقبله قضاء الله بناء على قرار الأطباء بانعدام فرصة الصغرى مقبولا دراميا على ضوء مابدا من عقلانيته.
* الابنة الكبرى: وموقفها في التجربة نفعي، وهو موقف يتفق مع الطبيعة الانسانية، فمن وجهة نظرها أنها واختها مصابتان بذات الداء. وهي ترى نفسها الأولى بتضحية الأم، فهي الأسبق في الإصابة، إضافة إلى أنها الكبرى، ولا أظنها بعمر يكفي لكي تتفهم مشاعر الأم وخلفيات قرارها بمنح الفرصة الوحيدة للصغرى. لذلك بدا نفورها وغضبها من تصرف الأم مقبولا دراميا ومنطقيا. وتعبيرها عن الرفض بالصمت هو ابلغ تعبير عن إدانتها لها. حتى في الخاتمة عندما تلوح فرصة وجود متبرع، لا يغير ذلك من مشاعر الرفض تجاه الأم. والمتوقع هو ان يلقي ذلك الجرح النفسي ظلاله على علاقتهما مدى الحياة حتى لو شفيت واستردت عافيتها.
* الام: وقد ارجأناها رغم محوريتها بسبب التركيب والتعقيد الذي ميز موقفها. فقد امتزجت رغبتان متساويتان في القوة إزاء الأزمة. فورة العاطفة، والميل إلى إرضاء الذات.
- فمن ناحية بدا الميل إلى إنقاذ الابنة الصغرى طاغيا حيث أنها الأكثر تعرضا للخطر. فقد أصابها النوع.. " الأكثر شراسة " من المرض. وسيطرة العاطفة على مشاعرها هي النقيض لموقف الزوج الذي اتسم موقفه بالعقلانية والمنطق. ومن الواضح انه يمكن ببساطة إدانة الأم لأن قرارها ترتب عليه إهدار فرصة الابنة الكبرى، في حين لم تفد الصغرى من المخاطرة، ورحلت بعد وقت وجيز من الجراحة. إلا أنه موقف يتسم بمنطق العاطفة التي تميل إلى الطفل الأكثر تعرضا للخطر. ولدينا مدخلا إضافيا لتفهم سلوك الأم في ضوء الثقافة السائدة بأن الشافي هو الله، وأن الطبيب لا يبلغ علمه ماهو مقدر في علم الله. ويمكننا تفهم رغبتها في التضحية بحياتها بالتبرع بكليتها الثانية للكبرى، والجملة التي وردت في السرد .. " استفقت على الحقيقة الفادحة ... " .. تعبير بالغ القوة عن قسوة ووطأة ماتكشفت عنه الاحداث على نفسيتها، إذ أدركت صواب رأي الزوج في مقابل اصرارها على إهدار الفرصة الوحيدة لنجاة الابنة الكبرى.
- ومن ناحية اخرى لا يمكن إغفال رغبة جانبية خفية القت ظلها على مشاعر الأم، ودفعتها إلى الإصرار على معارضة الزوج، والأطباء. وهي الرغبة في إرضاء الذات، وربما الآخرين، المتمثلين في المجتمع المحيط من أقارب وجيران. وتعبر عن ذلك الدافع الجملة التي وردت في السرد .. " وإن لم يكتب لها الشفاء، أكون فعلت مابوسعي على الأقل " ..
هي الرغبة المنطقية في تبرئة الذات أمام ( الآخر )، فالآخر شريك لنا في اتخاذ قراراتنا. يشكل بمراقبته الدائمة - التي ندركها بالفطرة - تأثير على سلوكياتنا، واستقبالنا للعالم. فهي كامرأة تمثل الجانب الأضعف في المنظومة الاجتماعية لا ترغب في أن تكون عرضة لانتقاد ما ربما يأتي من أقرب الناس إليها. ولا يشكل هذا العنصر الضاغط، والموجه للسلوك اتهاما ما للأم، فمراقبة الآخر تدفعنا لسلوك ما دون وعي منا. إنما ينكشف هذا الدافع بلفظ او بسلوك للشخصية، وهذا مابرعت صديقتي ميره في تضمينه بمهارة في نسيج السرد.
توفرت في القصة كافة عناصر نجاح النص القصصي.
صدق التعبير، وأصالة التجربة. والحكاية الإنسانية التي لامست وجدان القارىء بحيادية، ودون الإغراق في التعبيرات الإنشائية، إذ اكتفت الكاتبة بإطلاق الساردة لتطرح تجربتها بلغة متوازنة دون التدخل.
كما توفرت في القصة كافة الخصائص والأركان بتلقائية، وفنية عالية. فالمشهد يدور في لحظة لا تدوم أكثر من الفترة اللازمة للشخصية لاسترجاع تفاصيل الحكاية بينما تحاول ضم يد ابنتها على سرير المرض بعد علمها بتوفر متبرع لائق. تستهل القصة، وتختتم في ذات اللحظة الإنسانية المتوهجة بالمشاعر المتضاربة.
ولا شك في أن القارىء يلمس براعة التكثيف. والحرص على تجنب الخروج عن الخط الرئيسي للتجربة، بحيث أن كل جملة في السرد والحوار إنما وردت لتضيف جديدا، أو لتطور السرد في اتجاه الخاتمة.
كل التحية والتقدير لإبداعك استاذة ميرة كمال.
أ. محسن الطوخي
________
نص القصة
_____
انطفاء
فارغة الفؤاد، أمكث إلى جوارها، بانتظار بصيصٍ يشرق من عينيها الكابيتين ويبعث الضّياء في ليل عيوني.
تأمّلتُ الجسد الهزيل المكسوّ بالبقع الزّرقاء، ممدّداً وسط متاهة الخراطيم، وقد خرج من ذراعيها المثقّبين بعشرات الوخزات أنبوبان يضخّان الدّماء إلى جهاز الغسيل ويعيدانه كل يوم.
تململت في رقدتها، فأسرعت أمرّر أناملي فوق شعرها النّاعم، وأهمس:" تريدين شيئاً حبيبتي؟" فتحت أجفانها في وهنٍ ومسحت أنحاء الغرفة بنظراتٍ هاربة، ثمّ أغلقتهما من جديد.
لا أذكر متى سكن الجليد عينيها، ولا كيف امتدّ الصّمت مثل شرخٍ غائرٍ بيننا، كم ابتهلت إلى الله أن ينتهي هذا كلّه، أن تغضب وتثور في وجهي، أو تنبس بكلمة عتابٍ واحدةٍ، أو حتى تحدّق في بؤبؤ عيني لحظةً واحدةً، فأعرف أن قد سامحتني.
كم تمنّيت لو يعود الزمن إلى تلك الّلحظة بعينها، فأقبض عليها ولا أدعها تفلت مني، لحظة أوقد الفرح شموعه في ليلٍ حالكٍ ما حسبته ينقشع أبداً. كنّا قاب قوسين أو أدنى من إسدال السّتار على المأساة! لكنّ القدر كان أقوى، والكارثة أعظم من احتمال قلبٍ نُكب بإحدى فلذتيه، فأصابته فجيعة الثّانية في مقتل.
مرضت صغيرتي ذات التّسعة أعوامٍ فجأةً. كاد قلبي ينخلع من مكانه وأنا أقرأ القلق في وجه الطّبيب، وأتجرّع الخبر الفاجع:
"لقد داهمها النّوع الأشرس من مرض أختها، وضعها بالغ الحرج مع الأسف، حتّى زرع الكلية لن يحدث فرقاً الآن."
انهارت أعصابي، وأظلمت الدّنيا في عينيّ. لم أتردّد لحظةً، وأصررت على التّبرّع لها بكليتي رغم تحفّظ الأطبّاء.
عشيّة العمليّة، خرجت إلى حديقة المشفى، جاء زوجي وجلس إلى جواري صامتاً لبعض الوقت، ثمّ تكلّم:
_ عزيزتي، لم يزل لدينا فرصةٌ لمراجعة قرارك!
_ حتى أنت؟!
نضحت عيناي غضباً يائساً. أخذ يدي بين كفّيه، وهمس:
_لا أمل في نجاة صغيرتنا عزيزتي، الأطبّاء أجمعوا على ذلك. علينا أن نواجه قدرنا بشجاعةٍ ونزن الأمور بعقلانيّة…
انفلت صبري من عقاله:
_أيّ ميزانٍ وأيّ عقل! أيّ أبٍ أنت بحقّ السّماء؟! لا أكاد أعرفك، لا، لا أصدّق أنّ الرجل الذي أحببته عمراً قد صار بهذه القسوة. اسمعني جيّداً؛ لن أترك طفلتي للموت، ولو دفعت عمري ثمناً، وإن لم يكتب لها الشّفاء؛ أكون قد فعلت ما بوسعي على الأقل.
_ومريم؟!. قال في رجاء…
_ مريم، مريم، كلّ ما يهمّك هو مريم، وكأنّك أبوها وحدها، مريم بنتٌ قويّةٌ ومرضها أقلّ خطورةً، مازال بوسعها الصّمود سنة أو سنتين قبل أن …
_قبل ماذا؟ هه، لقد قلتِها: قبل أن تموت. أرجوك عزيزتي فكّري جيّداً، قد لا تحظى ابنتنا بمتبّرعٍ آخر يوافق أنسجتها، ترين كيف يرحل المرضى واحداً تلو الآخر ويغادرون بانتظار الفرج. أرجوك، أنت فرصتها، بل فرصتنا جميعاً، فلا تحرمينا الأمل الذي أوشك أن يشرق. تعرفين، لو كان الأمر بيدي، لما تردّدت في وهب فلذتيّ كبدي كليتيّ وعمري كلّه، لكن ما باليد حيلة، إنّه امتحاننا الصّعب، وعلينا أن نختار أقلّ العلقمين مرارة، أرجوك حبيبتي فكّري مرّةً أخرى.
_ بل فكّر أنت، وضع وجدانك في الميزان أوّلاً.
لم يطل الأمر كثيراً، رحلت صغيرتي بعد شهورٍ من العمليّة.
استفقت على الحقيقة الفادحة، وعبثاً توسّلت إلى الأطبّاء كي يوافقوا على التّبرّع بكليتي الأخرى: " ما تطلبينه قتلٌ عمدٌ، تحرّمه الشّرائع وتجرّمه القوانين"
كلّ شيء في حياتنا تغيّر؛ البيت الذي كان يمور بالدّفء رغم رياح المحن؛ غدا أشبه بمقبرةٍ باردةٍ تعوي الرّيح في جنباتها، وأصبح زوجي واجماً طوال الوقت، غارقاً في كآبةٍ لا نهاية لها، صار يعاملني بكثيرٍ من الجفاء، خلافاتنا التي كانت تنتهي قبل أن تبدأ؛ تحوّلت إلى مشاحناتٍ يعقبها خصامٌ يدوم أيّاماً وأسابيع.
بحثت عن ابنتي، ولم أجدها. كانت الجدران قد ارتفعت بيني وبينها، وخبا الوهج الذي كان يغمر علاقتنا الفريدة؛ لم نعد نتمدّد جنباً إلى جنب؛ نثرثر ونحلم معاً بدخولها كليّة الفنون الجميلة، والمعارض التي ستشارك فيها، لم نعد نضحك من القلب وأنا أملي عليها مواصفات صهري المستقبليّ.
كلّ محاولاتي لاسترداد ابنتي باءت بالفشل. كانت قد انسحبت إلى قوقعة الصّمت من زمنٍ بعيد.
دخلت الممرّضة تستدعيني إلى قسم الإدارة لأمرٍ طارئ.
لا أذكر كيف تلقّيت الخبر، ولا كيف تشربكت قدماي في طريقي إلى الغرفة، هويت على ركبتي وتشبّثت بيد ابنتي، غرقت كلماتي في نهر الدّمع، وتلعثم لساني بالبشرى:
" أخيراً، حبيبتي، نتيجةٌ متوافقةٌ لمصابٍ بموت الدّماغ، قرّر أهله التّبرّع بأعضائه…"
ظلّ وجهها ساكناً كتمثالٍ حزين، ارتعشت يدها في كفّي، وسحبتها في برودٍ.
ميرة كمال/ سوريا

