قصة قصيرة
الطريق
صاح المنادي في موقف الباصات..
اسرعوا اسرعوا.. آخر راكب.. آخر راكب..
اصعدوا.. اصعدوا.. لم يتبق إلّا مقعد شاغر.
ها هو من بعيد يحمل على ظهره عبء سنواته الستين، يحث الخطى ويسعى جاهداً للوصول الى السيارة الوحيدة الباقية في الموقف وكأن الباص كان ينتظر قدومه.. ليفوز بهذا المقعد.
ما زال المنادي يصيح.. اصعدوا اصعدوا، وعندما وصل أمسك بالباب وتنفس الصعداء ودلف الى الداخل، تسمّر في مكانه وهو يجد ان كل مقاعد السيارة فارغة ولا يوجد فيها أيّ راكب، امتعض قليلاً وعدَّ هذا الأمر استغفالاً واحتيالاً غير مقبول من قبل المنادي ليستعجل الناس بالصعود الى السيارة وهي خالية، وعندما التفت الى السائق ليعاتبه لم يجده في مكانه!
فجأة تحركت عتلة قرب الباب فأنغلق مع صوت دويّ ارتجَّ له الباص لينطلق الى شمال الشارع.. تملكه الرعب وهو يفكر ما الذي يحدث؟
أراد أن يجلس بمكان السائق حتى يوقِف السيارة لكن منعه حاجز غير مرئي، ارتد الى الوراء وارتمى على أحد المقاعد وأمسك بالمقبض القريب منه خوفاً من انزلاق السيارة او اصطدامها، لم تمر إلّا لحظات حتى سمع صوتاً لم يعرف مصدره:
عزيزي المسافر.. أُنظر الى جانب اليمين.
عزيزي المسافر.. أُنظر الى جانب اليمين.
نظرَ من خلال الزجاج الى الخارج، حبس انفاسه وهالهُ ما رأى.. كانت هناك صور بحجم كبير له وهو بعمر الطفولة ملصقة على طول جدار يمتد الى أكثر من كيلو متر، ازدادت سرعة الباص قليلاً لتبدأ بعدها صور أخرى له بعمر الفتوة والمراهقة ومن بعدها مرحلة الشباب، أخذتهُ الحسرة وهو يرى صوره في هذه المرحلة من عمره، أين ذهبت عضلاته المفتولة، شعرُ رأسه، نظراته، قوامه الرشيق، ابتسامته التي لا تفارقه؟
انتبه الى ان الباص مرّ على أكثر من محطة ولم يتوقف في أية منها، لكنه أبطأ قليلاً واستدار ورجع في الشارع الآخر الموازي للشارع الأول.. عندها سمع الصوت ينادي من جديد:
عزيزي المسافر.. أُنظر الى جهة اليمين.
عزيزي المسافر .. أُنظر الى جهة اليمين.
التفت يميناً مرةً أُخرى ورأى جداراً مليئاً بصورٍ له مع والديه وأخوته وأصدقائه وزملائه، انتابه الخوف كونه يعرف أن كل الذين في الصور قد توفاهم الله!
ابطأ الباص أكثر، عندها أراد النزول وحاول ان يفتح الباب ويهرب لكنه عجز عن ذلك وأحسّ ان يديه قد اصابهما الوهن ولا يستطيع أن يحركهما جيداً.. الباص بدأ يسير ببطء أكثر وعاد الصوت يناديه مثل المرتين السابقتين، خُيل له ان هناك صوراً أُخرى على الجدار المحاذي للشارع لكنه لم يستطع تمييزها، عيناه فقدتا القدرة على البصر بوضوح ولم يرَ غير صورٍ لكمامات طبيّة خضراء وبيضاء ملصقة على زجاج الباص، بقيت عيناه مفتوحتين بذعر وتنظران الى الطريق الذي خلا من السيارات ووصل الى نهايته، بقى في مقعده ولم يتحرك من مكانه حتى توقف الباص شيئاً فشيئاً في آخر محطة.
انتهت.
من مجموعتي القصصية
الساعة الثانية بعد منتصف القلق

