" هل كان علينا أن نقطع كل هذا المدى لنعود.؟
يا إله السموات! "
تقول ندى بلثغتها المحببة لحرف السين، أقلدها فترميني بشرر نظراتها أضحك، فتهتز السيارة التي تقل ندى وأهلها وأهلي، أهتز معها..أطير محلقاً من فرط السعادة.
ندى رفيقة طفولتي منذ مجيئنا إلى هنا، وهي الآن شريكتي في الأسرار.
باب خيمتها مقابل لباب خيمتي، لا أكاد أسمع جلبتها عندما تخرج كارجة ،تئن أصوات الحصى تحت قدميها حتى أخرج أنا الآخر متعثراً مثل كل مرة وألعن الحصى الذي فرشوا به المساحات الواصلة بين الخيام لكي يخفف من فيضان مياه الأمطار إذ تغمر المخيم كل شتاء .
حين أشعر بخروجها قبل غروب الشمس، أهبّ مسرعاً، أقفز قفزتين، أصير معها، نركض بسرعة وخفة ولانتوقف حتى نصل أسفل التلة وراء الخيام، نشبك أيدينا وننتظر تلك اللحظة بخشوع من يصلي،
الشعاع الذي يبدأ بغمر التلال البعيدة قبيل تواريه يتقدم باتجاهنا، يصل إلينا رقيقاً يحملنا مثل عهده
قبل سنوات ونحن نكاد نذوب في غمرته الندية ، أقول لندى دائماً إنه يتعثر بنا، يمكنني الآن أن أمنع ذلك الشعاع من التعثر، لكنني بدلا من ذلك اغمرها بضوء برّاق..
أهمس لها :
- "إنه يشبهك! "
فتضحك وتقول:
-" كيف يشبهني؟! "
- "مثلك.... يلثغ بحرف السين"
تعبس ندى وتقول بصوتٍ غاصٍّ في حلقها:
أنا لا ألثغ، ذلك الحرف بغيض"
أخفف عنها همّها فأقول لها :
-"انظري إلى ذلك الشعاع هاهو ينساب عند مروره بالسهل انتظري حتى يقترب، وراقبي ما سأفعل.
ولكي أزيد متعتها تشويقها وكذلك أستمتع بإبهارها، أمرر لها شعاعاً رقيقاً من يدي ، وأقرّب صوتي من أذنها وأهمس :
- حين يعبر من فوقك الفظي اسمي"
أرسم الشعاع كقوس فوقها فتهمس:
-" مثعود "
أرفع الشعاع ، أخفضه وأقول لها :
- أرأيت لقد تعثر بك فلثغ باسمي ."
ضحكت ملء قلبها وأنا صرت كتلة من النور تتقافز حولها
وكعادتها في مثل ذلك الموقف أخذت تضربني بأطراف أصابعها المنفرجة قليلاً فيمرّ من بينها ضوء خجول.
عادت ندى تركض إلى المخيم. وأنا أتبعها .كانت دوماً أسرع مني .
أصطدمت بها واقفة تنظر بذهول إلى الخيام التي أخذت تتهاوى و أهلنا و جيراننا يلهثون وهم يطفقون يطوونها ويجمعون أغراضهم ويحمّلونها فوق عربات الشحن .
- "لقد حان وقت العودة للوطن . "
يقول جدي بصوت مخنوق .بالبكاء.
شهقة طويلة علقت في عيني ندى ووقفت بلا حراك
وأنا وراءها أنظر إلى مايحدث. أحار ماذا أفعل، أراقب نايا أخت ندى وهي تسرع للملمة أغراضها ووضعها في كيس بلاستيكي من أكياس طحين المعونة الفارغة.
تحاول أختي ربا تقليدها في عملها لكنها لا تملك الكثير من الأغراض لا ألعاب ولا كتب ولا دمى قماشية.
قطتي سالي تحوم بين قدمي ربا ونايا. و تقف مقابل ندى تنظر إليّ وفي عينيها فرح غامض، ربما تراني هي أيضاً.
وجدتُ سالي في الشتاء الماضي، كانت تدور حول بركة الطين أمام خيمتي، وهي تموء جائعة ..حملتها ولففتها في كنزتي أطعمتها حصتي من طعام الفطور، ووعدتها أن تكون رفيقتي، لا أدري حينها كيف خطر لي أن أعدها أنني سأعود بها إلى بيتنا في الوطن .بيتنا الذي أعرفه جيداً رغم أننا خرجنا قبل تسع سنوات و شهرين وثلاثة أيام.كما تقول رزنامة جدي وكان عمري حينها يقل بشهر واحد عن سبع سنوات .
اكتمل تحميل السيارات وأخذت تنطلق في رتل طويل سريع . السيارة التي تقل أهلي وأهل ندى تنوء مثقلة بحملها ، تتبادل أختي ربا وندى نظرات الغبطة ، تسترق ندى النظرات إليّ وتبتسم بخفر
، وهي تقول عبارتها مرة أخرى في أذني : هل كان علينا أن نقطع كل هذا ..لنعود.
أغمرها بنفحة من ضوء فتبدو مثل سنبلة مشرقة.
سالي تتكوم في حضنها، عيناها تبرقان وإلى جانبها ترقد حمامتان بيضاوان كنت قد حصلتُ عليهما منذ عامين كمكافأة على حمل أغراض فهد ابن عم ندى. وكامتنان على ضرب ناجي وأنور أخوي ندى اللذين يضايقانه دائماً
وهو لايقوى على الرد عليهما فأتولى أنا ذلك. كما أتولى كتابة وظائفه التي يكلفها به شخص أحضره والده ليقوم بتعليمه.
والده كان تقريبا كبير المخيم الجميع يعودون إليه في كل كبيرة وصغيرة فهو المسؤول عن التواصل مع الجهات الراعية.
كان عليّ أيضاً أن أتلقى عن فهد ضربة السكين تلك ..
لم أفكر بالأمر كثيرا؟!
كل ما يشغلني الآن هو أن نصل إلى بيتنا،
أشعر بموجة حبور لمجرد التفكير بالأمر فأهتف بفرح:
- سالي ، حمامتيّ ، ندى....
يا أغلى ما لديّ...
سنعود اليوم إلى بيتنا !
عندما وصلنا إلى طريق محاذ للشاطئ كانت مراكب كبيرة تحمل اللاجئين القادمين عبر البحر.، المشهد يبدو مثل كرنفال مبهر. زاخر بالألوان وبخار برّاق يتصاعد في الأفق،
الذين قدموا عبر البحر لا تبدو وجوههم شاحبة مثل وجوه ندى وأهلها وأهلي، ولايلوث أجسادهم طين المخيم مثلهم، يبدون هادئين رغم تحفزهم الذي قد يفوق تحفزي أنا وندى وسالي والحمامات .
أتشاغل عمن حولي بتذكّر شكل بيتنا ربما كان مدوراً بحديقة واسعة ستلعب بها سالي أو ربما فيه شجرات يمكن أن تبني الحمامتان عشهما فوقها ... توقفت عن محاولة التذكر لأني تذكرت ايضاً أن الحرب أكلت الاشجار والبيوت والقطط والحمامات ..كما أكلت أمي .
عند اقترابنا من خط أحمر ممتد على الجانبين حلقت عالياً لكي أرى طرفيه لكنني لم أر سوى أشخاص يتحركون بسرعة يصنفون السيارات ويغيرون وجهة سيرها .
عند آخر الخط توقف الرتل و نزل راكبوه ومعهم ندى ، السيارات ستذهب في اتجاه آخر و العائدون عليهم أن يدخلوا راجلين، مشوا في قافلة طويلة جداً يتقدمهم جدي يتبعه والدي وهو يحمل على ظهره كيساً فيه ضفائر أمي ومفتاح بيتنا ولا أدري كيف قفز أمامي سؤال شقي مثل سالي :
- هل لايزال باب بيتنا موجودا؟
طردت الفكرة اللئيمة من رأسي وقلت في نفسي جازماً
- " حسنٌ...
هو موجود وسوف أجعل سالي وندى والحمامات يقفون أمامه ويدخلون منه إلى البيت حيث تنتظرهم الحياة."
حاولت أن ألتصق بكتف والدي صار طولي يتجاوزه بكثير ..عندما خرجنا من بيتنا لأول مرة كان طولي يصل الى منتصف فخذه ..
شعرت برجفة تسري في كياني ازددت التصاقاً به
أصابعي تحاول أن تتشبث بقميصه لكنها لا تفلح .
سالي تمشي وهي تتحكك بساقه وتبادله الرجفة.
خلفنا تماماً تمشي أختي ليلى ولحم يديها يتساقط نتفاً نتفاً لقد أصيبت بعضة برد في فيضان مخيمنا الشتاء الماضي وتيبست أطرافها، وأخذ لحم يديها يهترئ ويساقط لكنه وأمام دهشتنا جميعا عاد للنمو من جديد في الربيع.
على الشجر الشوكي الذي يسوّر الطريق تعلقت أطراف وأشلاء أجساد لأولئك الذين مزقتهم مدافع الحرب . كان من بينها قدما رامز الأخ الأكبر لندى وها هو يمشي على عكازين. أما أمها فهي تسير وراءنا جميعاً لكي لا يرى أحد دموعها، لكن نشيجها ونهج صدرها يتواتران مع وقع خطوات تلك القافلة من الحزن البشري التي تسعى لترتمي في حضن الوطن بينما مدافع للوطن تشهق قذائفها وتوشك أن تزفرها ، لا أعرف ستقتل من هذه المرة؟!
ما أعرفه أنها لم تكن هي من قتلتني .بل كانت تلك السكاكين ..السكاكين المسنونة في أيدي إخوة ندى.