الشاعر العراقي وليد حسين ... بين الأصالة والمعاصرة
كتب الناقد / د. رمضان الحضري - القاهرة
سيظل الشعر العربي العلامة الفارقة في بيان الظروف
والملابسات التي حولت الشخصية العربية الأصيلة بميراثها
الثقافي والعلمي والعقدي والفكري إلى شخصية مفرغة من
كل هذا الميراث الذي أفاد البشرية قرابة من ألف عام تقريباً
وبعملية إحصائية نصف التاريخ البشري المكتوب .
ولذلك فإن العودة لتأصيل الشعر العربي حسب تاريخه
الطويل لايقوم بها سوى الأفذاذ الذين يتحملون مسئوليات
إعادة الشخصية العربية إلى مكانها في الصدارة الذي يليق
بها ، وهناك مجتهدون مخلصون لذلك على رأسهم عميد
الشعراء العرب عباس شكر ، شاعر العربية الكبير .
واليوم يأتي شاعر العراق / وليد حسين ليقدم لنا نموذجا
شعريا يجدد التاريخ ويؤصل للشخصية العربية ، وهذا ما
دفعني لعنونة مقالتي ( بالأصالة والمعاصرة ) ، حيث الأصالة
تعيد التاريخ لمجراه والمعاصرة مشاركة في صنع الحاضر ،
فلاعجب أن تكون الأصالة والمعاصرة من أكثر الناس تحضراً
فالشاعر الذي ينتبه لما يدور حوله ، ويشارك في دفع عجلة
الحضارة إلى الأمام ، وسوف أقدم نموذجا للشاعر العربي
الراقي / وليد حسين بقصيدة معنونة بـ ( شهيّاً اذا أرخى ) ، حيث يقول فيها :
بلا جزعٍ للروحِ هامَ فؤادُهُ
يميدُ كغصنِ البانِ حانَ اتّقادُهُ
سما حولنا لمّا أنارَ لنا الدُّجى
فأقسَمَ أنْ يَمضي ويَعلو جِهادُهُ
أبانَ لنا وجهاً تجشّمَ سعيَهُ
تقلّدَ ميثاقًا وذاك اعتقادُهُ
ويغربُ عمّن داعبَ الشكَّ قلبُهُ
وأمضى كتاباً ما تلعثمَ صادُهُ
متى نرتقي ..؟ إنّي أشيدُ بنهجهِ
اَلَا ينفعُ الفكرَ الحصيفَ امتدادُهُ
أخا وطنٍ لم يتركِ الجهلُ بيننا
رسولاً وعند الياسِ عجّ رمادُهُ
الا ليتَ أيّامًا بها الرَبعُ يزدهي
تغنّى بلا نزقِ السنينِ جَوادُهُ
يعيّرني ذاكَ الصبيُّ بأنّنا
خذلنا لهم صوتاً قويّاً مفادُهُ
ويغبطني أنّي أكابِرُ فيهمو
فينهَرُني لصٌّ تَراخى عِمادُهُ
وكيف تَغابى ..! لايفرّقُ لو جَفا
فهل يمتطي وعرًا ؟ وأينَ جيادُهُ
غَدَا شاكياً ممّا أصابَ خيالَهُ
يمدُّ انكساراتٍ وحيثُ وِهَادُهُ
وكم أبهَرَ السُعداءَ فقدُ توازنٍ
ومالوا لخصمٍ قد ترّدى حيادُهُ
وكانوا سعاةً للذين تخاصموا
أذا نكثوا عهداً.. فنعمَ ارتدادُهُ
أرادوا لنا ذلّا فتبّاً .. لسعيهم
وما حاذروا حتّى تَناهى انعقادُهُ
أزاحوا قديراً يوم أثنى بليدُهُم
على هامشٍ في العِيرِ قلّ اجتهادُهُ
أ لسنا مَنحنا الذئبَ ..؟ يومَ تبرّمٍ
شِياهاً وقد أودى بنهمٍ فَسادُهُ
وأوفى حقوقَ السارقين وبعضهم
بلا زَنّةٍ في الوزن سادَ مزادُهُ
وإنّ انتهاكَ الحقِّ باتَ مروّعاً
تدارَكَنا جيلٌ ودامَ مُرادُهُ
ومالوعةُ الأمِّ التي نهضتْ بنا
بأدنى اشتياقِ الودِّ عادَ أزديادُهُ
تُلَوّحُ ..كم نصرٍ أشاحَ بوجههِ
وعند اغتيالِ الصبحِ بانَ سَوادُهُ
فأدركتُ حتماً لعنةَ الساسةِ التي
أضرّت كثيرا أين حلّت بلادُهُ ..؟
إذا أرجف الباغون نبضَ قلوبِهم
وشاعوا ضياعاً كيفَ يبدو افتقادُهُ ..!
فعدنا بلا لغطٍ ومهما تَعكّزتْ
شفاهٌ بحسنِ الذكرِ عَمّ سَدادُهُ
وإنّا ركبنَا الأمرَ دونَ هوادةٍ
الى حقّنا المنهوبِ كان اقتيادُهُ
فياصرخةً فاقتْ عبيرَ حروفِنا
لها موطن في القلب جدّ انشدادُهُ
نمدُّ الى قُرحِ السنين أصابعاً
لكي لا نرى جُرحاً رَثاهُ ضَمادُهُ
رويداً اذا ما القلبُ شجَّ به النوى
شهيّاً اذا أرخى .. وجاء ودادُهُ
يقدم الشاعر نصه على أكثر بحور الشعر العربي استخداما في
تاريخ الشعرية العربية ، فثلثي الشعر القديم مكتوب على بحر
الطويل ( فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ) ، وهو البحر الذي
جاءت عليه معلقة امرئ القيس أشهر المعلقات في شعرنا
العربي القديم والتي يقول في مطلعها :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وحينما يلتزم وليد حسين بهذا البحر على وجه التحديد فهو
يعلن للملأ أننا في حاجة للغوص في الماضي لكي نستخرج
ما يفيدنا في الواقع المعيش الحالي ، هو لا يعود إلى الماضي
بقصد أن يعيش فيه ، ولكنه يجلب الماضي إلى الحاضر
لينتفع به ، وليذكرنا بتاريخ مشرف ، وليوهمنا بضرورة
أن نستخدم تراثنا أمام هذا المد العلماني الذي جعل الأمة
العربية مصهورة في بوتقة غريبة لاندري لها توجها ، ولا
نعلم عنها شيئا .
ويجول الشاعر داخل معجمه اللغوي مستعيدا خصوبة اللغة
العربية وشبابها من مفردات قديمة يستخدمها في نصه الجديد
فيقول :
أخا وطنٍ لم يتركِ الجهلُ بيننا
رسولاً وعند الياسِ عجّ رمادُهُ
الا ليتَ أيّامًا بها الرَبعُ يزدهي
تغنّى بلا نزقِ السنينِ جَوادُهُ
يعيّرني ذاكَ الصبيُّ بأنّنا
خذلنا لهم صوتاً قويّاً مفادُهُ
ويغبطني أنّي أكابِرُ فيهمو
فينهَرُني لصٌّ تَراخى عِمادُهُ
فكلمات ( أخا – عجَّ – ألا ليت – الربع – نزق – عماده )
جميعها مفردات يبث الشاعر فيها الروح مرة أخرى
باستخدامها استخداما يناسب العصر الذي نعيش فيه ، وكأن
الشاعر يريد أن يخبرنا أنه يقف تماما في الوسط بين الأصالة
والمعاصرة ، فبدلا من قوله ( أخا حزن يقول أخا وطنٍ ) وبدلاً
من قوله( ألا ليت الشباب يقول ألا ليت أياما بها الربع يزدهي )
، ولا يتوقف الشاعر / وليد حسين عند هذا الحد بل يحاول أن
يربط بين البلاغة العربية في ثوبها الأصيل وبين البلاغة
العالمية في ثياب المذاهب والمدارس الأدبية الحديثة ، وكأنه
يقول للجميع إن البلاغة العربية مدرسة أدبية أصيلة ، وأن
المذاهب الأدبية الجديدة لا نتخطى حدودنا إذا قلنا أنها بلاغة
جديدة ،فمثلا ( لم يترك الجهل رسولا ) من نوع الاستعارة
المكنية ، وكذا تغنى جواده ونزق السنين ، ولكنه حينما يقول
( ينهرني لص ) فهذه التوليدية الجديدة في رؤية العالم ، بمعنى
أنه يرى أن للص سلطة وجاها ومالا فأصبح بإمكانه أن ينهر
من خلال سلطة اللصوصية .
نعم وليد حسين شاعر عربي يقول ما يفهم ويفهم ما يقول ،
يقدم الوجه المشرق للقصيدة العربية ، ويتضح هذا الوجه
المشرق على صفحة النهر الحاضر الذي يفصل بين
أصالة الماضي والحضور في الواقع الآني بمشاركة مؤثرة
في المجتمع العالمي .
وحينما يقوم ناقد بتحليل هذا النص لسانيا أو بلاغيا تأصيلا
فلا شك أنه سوف يزيل الحجب عن فكر عربي قويم ، ينادي
بضرورة دفع عجلة الحضارة بيد عربية ، والمشاركة في
صياغة منظومة عالمية تكون اللغة العربية في موقعها الأعلى
حيث إنها علية لأن رب العزة جل في علاه أنزل بها كتابه
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
شكرا للشاعر الكبير وليد حسين الذي أتاح لي أن أستظل
في فيئ شعره الوارف البهي .