" دراسة "
الصراع
بين الأنا والآخر
عمر
عنَّاز نموذجاً
فاطمة
حيدر العطا الله
-
يقول سارتر : ( إنَّ كلَّ وعي بشيء ما هو إلا
وعي بشيئين )(1) أي أن ترتبط بالموضاعات, ويتحتم على ذلك أن كل شيء عدا الأنا هو
آخر بالنسبة لها .
- لقد شغل الصراع بين الأنا والآخر الباحثين والدارسين والفلاسفة والمفكرين في عالم الاتصال , ولقد شكلت هذه الثنائية ذروة انفعال الشاعر ( الأنا ) مع الموجودات ( الآخر ) , ثم إن هذه العلاقة علاقة تلازمية إذ أن وجود أحدهما لا يتحقق إلا بوجود الآخر, فهما قيمتان متضايفتان , وهي علاقة تتصل بالخصوصيات الثقافية لتأصيل الأنا وبالتالي تشكلها في عين " الغير " , ومن هنا يتم التموقع في حالة الصدام و المواجهة , ثم إن كل وجود وكل طرف منها حاجة ضرورية في عملية التعايش الإنساني وبالتالي خلق المثاقفة الفاعلة , فالآخر و الأنا قطبان مركزيان في عملية التواصل والمقاربة الثقافية
-
الأنا لغةً : اسم مكني وهو للمتكلم وحده , وإنما
يبنى على الفتح فرقاً بينه وبين أن الناصبة التي هي حرف ناصب للفعل والألف الأخيرة
إنما هي لبيان الحركة على الوقف (2).
-
الآخر لغةً : في مادة آخر قال : أحد الشيئين
, هو اسم على أفعل والأنثى أخرى والآخر بمعنى غير (3) .
-
(1)جون بول سارتر
,
تعالي الأنا موجود , تر حسين ضفي , ص60
-
(2) ابن منظور , لسان العرب , ص37
-
(3) المصدر نفسه , ص12-13
-
الصراع بين الأنا والآخر :
لا يصح أن نسميه الصراع إنما الإشكالية , فبالرغم من وجود تعارض دائم بين الأنا والآخر إلا أن أشكالاً من ذلك الصراع لا تلغي الآخر أبداً إنما تحاول أن تبني جسراً يعبر كل منهما إلى الآخر .. وهنا لا بد من الربط بالموروث الفلسفي الذي ينطلق من قول ديكارت صاحب الشك المنهجي في الكوجيتو : "أنا أفكر أنا موجود " , هذه فلسفة الأنا(الذات ) , إذاً وجود الإنسان سابق على وجود الآخر (العالم)وبالتالي كل وجود غير الإنسان هو آخر , مما يعني نفي الصراع السلبي دوما .
-
الشاعر عمر عنَّاز(1) شاعر حداثي يشغله ما يشغله
من ظواهر عصره وقد تجسد الصراع في شعره بشكل كبير على تعدده وكان جديراً جداً
بالدراسة والبحث.
*
صورة الصراع بين الأنا و الأنا نفسها ( الذات الشاعرة المغتربة ) :
-
ويمثل قول سارتر : " أنا في حالة إلى توسّط
الآخر لأكون ما عليه "(2)
من القول السابق لسارتر يتبين لنا أن الإنسان يمتلئ بذاتيته عن طريق
تواجد الآخر بوصفه معادلاً موضوعيًا لذاته التي يكونها , ولكن هذه الذات
تعيش أزمتها النفسية (الصراع ) أثناء ذلك التكوين , فتنشطر ذات الشاعر
إلى ذاتين : الذات الضائعة , والذات الباحثة عن هويتها
(1)
عمر محمود عنَّاز , شاعر عراقي ولد في
الموصل عام1976.
(2) جون بول سارتر , تعالي الأنا موجود, تر حسين ضفي ,
-
والتي يجسدها الشاعر في قصيدته ( تصدعات في
مرايا الذاكرة) والتي يمثل فيها قول سارتر
" أنا في حالة إلى توسِّط الآخر لأكون ما أنا عليه" :
واقفٌ
لي ألف ظل من ترى أنا
في هذي الظلال الملحمه ؟! (2)
كلُّ ما حولي أسميه أنا
وأنا لست أنا كي أفهمه (3)
-
نرى أن ذات الشاعر تعيش الصراع الذي يخلخل
كينونتها ويحمل ضياعها وعدم ثباتها في تحديد علاقتها مع الآخر فهي غير قادرة على
أن تنسجم معه , ونرى أن حالة التشظي والتوتر والقلق الوجودي جعلت الشاعر يطرح
التساؤلات التي تقلقه حول أناه الحائرة لنقل ذلك إلى المتلقي وهذه الأسئلة وليدة
ذلك الاختلال الوظيفي لدور الذات القلقة المتصارعة مع نفسها ومع الواقع الذي هو
علة ذلك الصراع المؤدي إلى الاغتراب الروحي (فهو تحول منتجات النشاط الإنساني
والاجتماعي إلى شيء مستقل عن الإنسان ومستحكم فيه ) (4)
* صورة
الصراع بين الأنا (الأمة المقهورة ) والآخر ( الغازي المستغل) :
-
هنا الأنا محاصرة تحاول الكشف عن ذاتيتها
ووحدتها العضوية وأن تحرر كل طاقاتها لتقف أمام قمع الآخر , نجد ذلك الصراع في قول
الشاعر :
(1)
عمر محمود عنَّاز , شاعر عراقي , ولد في
الموصل عام 1976
(2)
عمر عناز , خجلاً يتعرَّق البرتقال , ص5
(3)
المصدر نفسه , ص 5
(4) سبحان خليفات , فكرة الاغتراب في الفكر العربي , ص41
صلبوا النخل على أجسادنا
فأسالت آهةٌ حرَّى
دمهْ
خلني كي أنزف الروح كما
تنزف الظلماء لون
العتمه (1)
-
يتبين من خلال هذين البيتين جديَّة العلاقة
بين ذات الشاعر التي تمثل الأنا الجمعية الذائبة في (نحن) أمام الآخر وهو المستغل
, ويتشكل في هذا الصراع احتدام نفسي يجعل الشاعر يطلق كل ما لديه من طاقات لمواجهة
الآخر ( المستغل ) وحماية أناه من التهشم , فهو إلى جانبه الثوري يتبنى معنى
الدفاع عن ذاته المستغَلة والمنتهَكة , نستطيع أن ندرك من خلال هذه الصورة أن
الصراع هنا مع الآخر صراع ذو طابع سلبي وثوري مع الآخر , فهنا لا إمكانية لصنع
حوار معه أو حتى خلق تقنية نفسية كتقنية ( التساؤل ) مثلاً ! , لذلك ينعدم
الانفتاح والتأقلم إشارة إلى أن الصراع موجود منذ قصة قابيل وهابيل ...
* صورة
الصراع بين الأنا (الشاعر ) والآخر ( المحبوبة )
:
- إذا ما تحدثنا عن الصراع وإشكالياته بين الأنا التي تحاول التأقلم مع الآخر أو النظر إليها من خلال جعل الآخر مرآة لها أو من خلال إلغائها له في بعض الأحيان فإننا يجب ألا نغفل أن في طيَّأت هذا الصراع صراعاً عاطفياً بين الشاعر وقلبه الذي يحمل لواء دقاته محبوبته التي
(1)عمر عنَّاز , خجلاً يتعرَّق البرتقال , ص 7
-
والتي تختلف في علاقتها بالصراع ,ممثلاً بالعتاب
أو الشكوى أم ربما الأسى والحنين , وهذا واضح في شعر عناز الذي يتخذ من الأنثى المادة
الخام لقصائده العصماء , ها هو يقول في قصيدته (مجهش بالعبق ) :
وحين تناءتْ شيع الدمعَ سافحُ
وناحتْ بأمداء القلوب
النوائحُ (1)
متون من الأشجان في بال غيمة
لها مطر لا يشبه الدمع
شارحُ
على شفتي يهمي فازداد لهفةً
لأنَّ مذاق
البعد لا شك مالحُ(2)
-
تحدث الشاعر عن الآخر (المحبوبة ) بنبرة
الشوق الذي انتهى به إلى الحزن , لذاك نحن أمام موقفين (الذات ) والآخر (العواطف)
وهذا يعيدنا إلى صورة الصراع بين الذات ونفسها , إن احتدام التوتر الانفعالي في
هذه الصورة لا يجعل من المحبوبة نداً بالرغم من ضعف الذات أمام الفراق , ذلك لأن
الآخر هنا (أي المحبوبة ) تجلى بصورة عواطف الشاعر ذاتها مما يخلق فاعلية للآخر يجدد بها صورته في عين
الأنا العاشقة , التي تبتعد عن الحياد في هذا الموقف العاطفي الجيَّاش .
(1)
عمر عناز , أ جداً , ص80
(2)
المصدر نفسه , ص82
(3) المصدر نفسه
-
ومما سبق نستنتج أن الصراع في شعر عناز كان
وسيلة لوعي إنساني , على اختلاف الدلالات إن كان في الأنا التي تحاول التمركز
والذاتية و الذاتية المتعالية والثورية أحياناً أو في الآخر الذي يشكل لحظة تصادم
مع الذات أو لحظة التقاء معها في احتدام عاطفي وتوتر عالٍ كما هو الحال في الآخر
(الحبيبة) , إن هذه الجدلية والثنائية الضدية شكلت أكبر عقدة جدل طالت جميع نواحي
الإنسانية بين الذات ومحاولة مساواتها بالآخرين أو دفاعها عن هويتها في جوهر
(الأنا) رغم التمايز والاختلاف بينهم , وكان الشعر خير من رسخ لها سيما الشاعر
الفذ عمر عناز الذي كان أنموذج الشاعر الذي يخلق في فلسفته الشعرية مزجاً بين
الإنسان والإنسان الآخر على أنه الأنا الآخر مما يبشر بولادة مجتمع إنساني يضع
بصمته في التاريخ البشري .
***********
-
المصادر والمراجع :
-
عمر عنَّاز, أحمر جداً, هيئة أبو ظبي
للثقافة والتراث (أكاديمية الشعر ) , الطبعة الأولى , 2012, أبو ظبي .
-
عمر عنّاز , خجلاً يتعرّق البرتقال , الديوان
الفائز بجائزة دبي الثقافية , الدورة السادسة , 2008.
-
سبحان خليفات , فكرة الاغتراب في الفكر
العربي , مجلة أفكار, العدد 24 , 1974.
-
ابن منظور , لسان العرب , الجزء13 , دار
صادر , بيروت.
-
جون بول سارتر, تعالي الأنا موجود , تر
حسين ضفي , مكتبة الفكر الجديد , بيروت , ط1 , 2005.

