أحلام تحترق في ضجيج الذاكرة
قراءة في ديوان " نهر ٌ قطـّعت أنفاسه النار " للشاعر علي العبادي
بقلم : أ . توفيق الشيخ حسين
غـُرست أحلام ٌ في يابسة ٍ حرقتها شمس الانتظار
فسقى النهر أحلامي بمياه من نار
سيبقى لي أمل
أتمنى أن يتحقق في الأيام التي هربت من لهيب النار
أملي أن أبحث عن نهر ٍ تغتسل به النار من آثامها
التي سطـّرَتها في ضجيج ذاكرتي
أحلام ٌ تختبئ من نار ٍ أصبحت ذاكرتها دخانا ً .. شروق صوتها في خيال ٍ وهذيان .. ينتظر في محطة الخيال مع مرور الأيام الطويلة .. ذكريات تمد ّ يديها لتعيد إليه الحياة , وتمسح رماد الحريق ليبحر من خلالها في عوالمه الوردية لينهي معزوفته الهادئة في نهر ٍ يروي ظمأه من بعد احتراق أنفاسه ..
" نهر ٌ قـطـّعت أنفاسه النارُ " المجموعة الشعرية الأولى للشاعر علي العبادي والتي ضمت ( 13 ) قصيدة نثرية , تتسم بالروح الجمالية بذلك الوجع المتدفق والذي يحرق الروح والجسد , ويبقى واقفا ً عندما تسير به الأرض في ذاكرة الأحياء الممتلئة بالمعاني التي تترنم كطائر جريح يستل صخب الفجر من ضجيج الليل ..
قصيدة النثر تجربة فريدة في القصيدة العربية , وقد تعرضت إلى انتقادات كثيرة بهدف إخراجها من دائرة الشعر بحجة افتقادها للوزن والقافية ..
يقول الكاتب عبدالرحمن البيدر :
" لا شك أن قصيدة النثر لا تمتلك أسوار حصينة مثل التي تمتلكها القصيدة العمودية متمثلة بالوزن والقافية , وهذا ما جعلها عرضة للاقتحام من الذين يدعون الشعر , ولكن في الوقت نفسه يمكن أن نجد الكثير من القصائد المقفاة تفتقر إلى الشعرية الحقيقية , وحيث أن الكثير من قصائد النثر تتوفر على أروع الصور الشعرية وأرقى الموسيقى الداخلية وهذا ما يوفر لها استفزاز ومحاكاة الوجدان وتحفيز الذائقة الشعرية فلا يمكن إهمالها كنص شعري " ..
يعتبر الشاعر الراحل " محمد الماغوط " رائد قصيدة النثر العربية من حيث القدرة التعبيرية وعمق التجربة الشعرية ..
يقول الشاعر الراحل محمود درويش في أربعينية رحيل محمد الماغوط :
" كانت حسيته المرهفة هي دليله إلى معرفة الشعر , هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتى , أنقض ّ على المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية , بلا نظرية وبلا وزن وقافية , جاء بنبض ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ً ولا شعرا ً فشهق الجميع .. هذا شعر .. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعّة فيه , وعناق الخاص والعام فيه , وفرادة الهامشي فيه وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا , قد أرغمنا على أعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر على حال , لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الى الشك بيقينها الجامد " ..
يدخل ُ بيت الأحلام ويتدفق الحنين فوق روحه ما بين شمعة أُ ُطفأت وأخرى احترقت .. يحمل حقيبته ويرحل الى مدينته التي شطرت أسمها من شمس التأريخ .. يعبر أزقتها المبتسمة وكرم أهلها وطبيعة ناسها , فيتجدد شباب الغربة في الروح من بعد قسوة الزمان ..
حملت ُ أحلامي في حقيبتي
ورحلت ُ الى أصل قضائي
" الشطرة "
رجعت ُ جسدا ٍ راجلا ً ما بين
الملايين
منكسرة هي روحي
من الوقت الذي أصبح رمزا ً للزمن
تغرقه جراح من ركام الآمال .. دمع ٌ ودم ٌ يغطي رونق طفل جريح .. قلب ٌ بنزف ُ رغم أنينها ونبضها الحزين في ذاكرة الوجع .. تتقاسم رغيف السكون من موادها الروحية وتفترش زرقة النار لتقلب روحها على كفوف الاحتراق .. أطفال ٌ قلوبهم تتصارخ لا يسمع سوى الفرار .. يفرون من الموت والى الموت , وتبقى الصور منقوشة في تأريخ الذاكرة المجسدة بعذابهم اليومي ..
بدموع أمي ّّ فـُطـِم الفرح على شفاهنا
وبأنينها دونـّت تواريخ الليل
فأنتجت بعيونها تأريخا ً صامتا ً
في حضرت اللغات
الوجوم يلثم السـنوات العاريـة
من ابتسامات الدنيا
يضيق فضاء الرحيل بجراحاته وتحمله سفن ٌ تطفو فوق نهر الدموع .. يتحول قلبه إلى جمرا ً تتناثر شظاياها في كل اتجاه .. تموت أحرف الكلمات وتبقى الشمس خارج أسوار القلب .. تخنقه النبضات وتحترق الآهات في صدر الليل ..
أيتها الشمس أيهما أكثر
يحترق لهيبا ً قلبك ِ أم قلبي
شلالات الآلام جعلتنـي
جمرا ً يجفف ذاتي
بريق عمري يختزله
حريق في ذاكرتي
يمر الليل كطيف ٍ والذكرى تعذبه , يجتر الحزن ويقتات الحرمان .. ينشد دروب الغربة والترحال .. يقلب روحه على كفوف الاحتراق , وبعيش الصمت مع حروف الكلمات .. يعبر دروب الأحزان لينسج مع الليل وحشة الظلام , ويطول به البعاد ويعيش رغم قسوة الزمان مع كلمة تضم ّ في حروفها الحنان ..
كل ما تبدل لا شيء سوى أرقام ناعسة
أحمل إليك روحي المذبوحة
بصدى الأصوات التي ذبحتك
رحلت إلى أعماق القلب
الورد بكى بعيون الأطفال براءة
رثتك الدنيا سلاما ً على أجنحة الطيور
يبحث عن أوتار ٍ لآلته ِ الموسيقية الجرداء حتى يتمكن من تأليف معزوفته الهادئة , في عينيه حلم زرقة البحر, ويبقى يحمل فوق الصدر بقايا الأحزان , ويمضي في الأسى وحده , ليروي لهم حكاية الأمس المجسدة بعذابهم اليومي كغيمة تنوء ُ بمطر الضجر .. يفترش زرقة النار التي تصبح نعشا ً وتحمل على أكتاف الشفاه ..