سيرة ذاتية لحالمٍ
كتب / أ . حسن أبودية
طلل يقف على طلل، حيث يغدو الوجع عنوان اللقاء.حين سرتَ وحيداً صرتَ وحيداً، كانت بقايانا تتشبث بالمكان، و تأبى أن تغادره، هكذا عرّتني الريح القادمة من البحر، و بعثرتني رماداً يغطي المدينة.كانت فرس الذاكرة تُحَمحم وحيدة، و كانت الطرقات تغلق النوافذ المؤدية إلى لحظة عناق صادق مع الذات. المدنُ لا تعترف بخطاياها إلّا بعد مرور الخراب، حيث تنتعل بقايا الجثث لتمرَّ نحو الحياة، وهناك تقيم لهم نصباً تذكارياً، و تعزف لحن الرجوع الأخير.صمتٌ، و الصمتُ أكثر بلاغة عند العقلاء، لكنّه هنا توأم موت مرّ ذات مساء على من لم يعرفوا الحياة، و غدت عظام أجسادهم دليلَ المرور إلى الكينونة الكبرى، و علاماتٍ فارقةً في جبين المدن المهزومة، المدن التي لم تزل تحتفل بالنصر، و ترسل المزيد من أبنائها ليكبُرَ الطلل، و يغدو معلماً سياحيّاً تزوره القبعات و الفساتين القصيرة.وحده الدمع يُنبئ القصيدة أنّ حبّاً صادقاً عرفته الدروب، ما زال ينبت الياسمين خفيةً، و يخشى من عبق الجرح.قالت سائحة للفتى الأسمر هل لديك مكان للمبيت أشاطرك إياه ليلةً أو بضع ليالٍ؟ فأجابها أنا أنام على الجمر حتى لا تأخذني سِنة أو نوم، فالسِّنة تعني أنّي لن أصحو ثانية، و لن أرى خيط الشمس الأول.رمقته بعجب و يممت وجهها نحو تخوم المدينة حيث يقيم الوالي،و زمجرت لتُسجننّ في غيابة جبٍّ لا تجيئه سيّارة. ابتسم الفتى و عاد يرمّم ذاكرة المكان. الذاكرة هي جدار الوجود الأخير..نَقَشَ على كتف صخرة ورث ظلها من أبيه. و ورث عبء إيقاد شعلة الأمل كلما خبت، و يمسح عن جبينها غبار المدن الزائفة.قالوا عنه إنه من نسل الأنبياء، و آخرون زعموا أنه نبيّ، و في أعماقه كان يردد ما أنا إلا من صلصال عجنه - على عجل - رحيلٌ لا يعرف الزمن إلّا بعدد ذكرى الشهداء.عندما زعم الجنود العائدون من المعركة أنهم كانوا هناك يزرعون الورود، صدقهم الجميع، ولم يرَ أحدٌ تلك الدماء على أياديهم.و عندما زعم العراة في غرف النوم أنهم كانوا يصونون شرف الوطن، صدقهم الجميع، ولم يرَ أحدٌ عريهم و راحاب تتسلل من فراشهم.و عندما زعم المتخمون أنّ ناراً لم توقد في بيوتهم منذ شهور، صدقهم الجميع، و لم يرَ أحدٌ آثار آخر وليمة لم ينتهوا منها بعد.و عندما على استحياء قلتَ أنّك كنت تحرس الذاكرة، و تزرع الأمل في بندقية جدك، و كنتَ تشعل البخور لمدنٍ أسقطها الحاضرون من الذاكرة، كذّبك الجميع و رجموك، فمشيت إلى وجودك، هناك حيث تعانقك حجارة الطريق الحالمة - مثلك - بالفجر. و كانت العواصم تُقْرِي أعداءك بعض دمك. و تتوّج أصحاب النصال المغروسة في خاصرتك أوسمة الانتصار.قالت جارية لسيدها خذ منّي ما شئت، و لا تترك نهديّ لأنياب الغرباء، و لم تكن تعلم أنّه أمضى وعداً أن تكون لهم بعد أن يقضي منها وطراً، فحملوها من فراشه عارية و مضوا يلفهم ضباب البحر، بعدها لم ترجع الجارية و كانت أخرى لا تزال عند قدميه جاثية تصلي خوفاً من رائحة الغرباء العفنة التي تهبّ بين الفينة والأخرى، فيتعهدها السيد بقربان جديد يغدو طللاً و ذكرى للعابرين، فيسددون نصالهم نحو خاصرتي، رهبةً و طمعاً، فتعلو قهقهات راحاب، و تبدأ بالرقص على أشلاءٍ غدت أطلالاً تقف على الأطلال.و في مكان ما قرب زيتونة استحم في ظلها نبي ذات زمان، أضع حجراً فوق أخيه، و ثالث و رابع أبني جداراً، و أخْبئ بين الحجارة همسات جدي.. كن وحدك يا صغيري، كن وحدك، و امتشق الذاكرة لتنير لك الطريق. و كنتُ وحدي، أبصرُ ما لا يبصرون، فترجمني مدن لم تغتسل بعد من جنابتها الأخيرة مع سيد لا يتقن إلا فن إهداء الجواري.