إسلام
للقاصة : أ . زينب الأسدي - العراق
- كيف يتسلل الصغار إلى الدنيا؟
- إثر عناق...
- عانقيني إذن؟
- لا، لأنتهي من تربية نفسي أولا!
يضحك:
- متى ستنضجين يا إسلام؟
تمسك بطرف أنفه وتجره:
- بعدما أنجب رجلاً!
غالبا ما كان يستفز براءتها بحوار كهذا. أي شخص آخر سيستهجن ردودها ويتهمها بالمكر مالم يعرفها عن كثب.
كان قد تعرَّف إليها بعد مصادفة إلكترونية عبر الفيس بوك.
تسلل لمتصفحها، ولكنها كانت قد حجبت جميع معلوماتها عمن هم ليسوا بأصدقاء، قبل أن تحجب شعرها!
كل ما ظهر على حسابها "إسلام" متبوعا بـ (ولست بمسلمة)!
وصورة شخصية لصبية دون العشرين، تضع حجابا بلا عنايه. بابتسامة لا تشي بالكثير.
وبرغم حذره الشديد؛ خلّف ارتباكه متابعة لحسابها.
- السلام عليكم آنسة إسلام، أعتذر فأخي الصغير كان يعبث في هاتفي قبل قليل... و....
ضحكت هازئة واتبعت سخريتها بملصق معوج الفم:
- يَقدِمُ الصغار بشجاعة على ما يجبن عنه الكبار غالبا!
حاول أن يبدد إحراجه وارتباكه بمعرفة سر الإسلام في اسمها.
-إسلام ولستِ بمسلمة؟!
نعم. ولدت في الموصل لأبوين مندائيين، اضطرهم النظام آنذاك للهجرة الداخلية قسرا، تبعا لسياسة التغيير الديموغرافي. ولكي يبدو العراق عربيا مسلما بالكامل.
جدي وجدتي لأمي هاجرا العراق، سجن جدي لأبي لرفضه مغادرة أرضه ومات في السجن، وكما قُتل عمي للسبب ذاته.
استوطن والداي أرض الديوانية بمرارة، أصيب أبي على إثرها بورم خبيث، تاركا أمي بعدها كما ترك إبراهيم هاجر!!
ولأن الماء روح المندائية؛ كان لزاما أن نقطن قرب شق انحدر من الفرات، لا لشيء سوى ليجسد دور زمزم!
كل غروب تضع الشمس حملها خلف النهر، فيبزغ يوم جديد!
لم نعرف بعد من أعراب مكتنا سوى جارة كانت تتردد علينا تسأل إذا ما كانت أمي بحاجة لغرض ما من السوق.
"أم غايب" هكذا كانوا ينادونها. عرفت في ما بعد سبب الكنية؛ فهي متزوجة منذ صغرها ولم ترزق بذرية.
ذات يوم طرقتْ الباب وكعادتها: مئة طرقة في الثانية!
ولكن من سيفتح لها؟! جاء أبي وأصطحب أمي وأنا لم أبلغ مفتاح الباب بعد!
"إسلام" صار اسمي بدلا لـ "دينارتيا"* ولكن في الوقت نفسه قطعت الخالة أم غايب على نفسها تنفيذ وصية والدتي بأن تحافظ على ديانتي.
وبعد أن تعودتُ انتظار أمي كل ليلة، صرت أغفو وأنا كلي ثقة بأنها لن تأتي فمن يرحل دون وداع؛ لن يعود مجددا!
مضت الأيام، توطدت صداقتهما، تسربت الفتاة لقلبه كما تسرب أبواها من فم الحياة!
ولأن الحب كالمحتل يجتاح ولا يستأذن؛ لم يتسن ليحيى أن يستشير أهله.
- سأتبرأ منكَ لو تزوجت بها..
- أنا من سيتزوج، حياتي، لا شأن لأحد. يهتز زجاج النوافذ لصراخة دون أن يهتز قلب أبيه.
إسلام التي اعتادت الفقد، واستأنست حزنها العنيف الطاهر ، تشعر بيتمها للتو .. تكرر قراءتها لرسالته:
- "آسف، فعلت كل ما بوسعي".!
فكرت أن تراه لأول وآخر مرة. تضع قبلة دافئة على جبين العجوز البارد وتغادر المنزل برفقة سلاح شخصي ورثته عن أبيها، والذي لا تتذكر متى أُطلِقت آخر رصاصة منه..
يمنحها الجلوس إلى نافذة العربة هروبا فلسفيا لذيذا.. فتكافئ نفسها بالحصول عليه دائما.
تصل، تطرق الباب فيخرج هو:
- إسلام؟!
متفاجئا لمجيئها، ومبتسما لعفوية وضعها للحجاب والعباءة؛ فهي لم تعتد ارتداءهما من قبل.
لم تفه بكلمه، ثلاث درجات تصعدها بتؤدة وكأنها تحمل الأرض. ومع كل درجة ترتقيها؛ يهبط قلبه أخرى. تغطس بملامحه
ستحرر رصاصتها السجينة، لا. ستقبِّله في عقر دارهم! ولكنها لم تفعل.. لم تفعل أي ما جاءت من أجله..! تنزل وتعود أدراجها.
تخطف الشمس، وتعبئها في صدرها.. يطوقها الحمام، تحاول أن تمسك بإحداهن.. ولكن..
لمعان منائر المقام في الأفق البعيد، أنساها هروب الحمامة، يأخذها الألق، وشيء يستحثها للانحناء، تنثني، تتطوح، يحدث سقوطها وقعا "أشهد أن لا إله إلا الله"
بينما هناك ظل هو مصلوبا كتمثال ينتظر زلزالاً؛ ليستريح قليلا..
هزّه صوت الإسعاف وهرع الناس..
- ماذا هناك؟؟
- فتاة ... تموت... الطريق السريع..
يركض خلفهم، يمتصه الشارع، يصل متأخرا، يخترق المارة المتحلقين بموقع الحادث، تشق سيارة الإسعاف طريقها إلى البعيد...
كالمجنون يتبعها عبثا، يثب يركض بأقصى قواه، يسقط.. وينهض..
على كتفه، تحط يد حانية.. يلتفت مفجوعا:
-إسلااااام!!...
-------------------------
*دينارتيا: وتعني في ديانة الصابئة، قمة الدين.

