﴿ أم عوض خانم ﴾
دقات البيانو العنيفة، كقصف الرعود، كانت كافية لإيقاظي كالمجنون من شدة الذعر.
ما عرفته الآن، - عن تجربة -، أن الخوف
والهلع ينشط جميع الحواس و يشحذ الأرجل والأطراف.
فقد كان وقع الضجيج، و كأن إعصارا أتحاشى الغرق في دوامته.
بعيون جاحظة و شعر منفوش، وجسد يرتعش، أكملت "مكرها" سيمفونية النشاز،
وكأن العازف يطرق بأزاميل من حديد على رأسي، بدل أن يداعب مفاتيح البيانو بلطافة.
- ماما ..ماما .. من هذا المذوق الذي يبدأ صباحه بهكذا ضجيج.؟؟
- هون عليك بني، أسبوع و تعود للمدينة الصناعية، العترة علينا نحن.
- بيانو في حي شعبي، و الله أول سمعة، بأوروبا لم أسمعه، لأسمعه هنا و بكل هذا النشاز و الضجة.!!!
-إنها الجارة، خالتك أم عوض، روح تفاهم معها، عسى أن ترحمنا و ترتاح و تريحنا لو يوم بالأسبوع.
ما علمته لاحقا من أمي أن الخالة أم عوض دخلت عالم الذوات والخوانم، وزوجات الوزراء
والسفراء، بعد أن ترقى زوجها فجأة و أصبح مستشارا لأحد الوزراء.
بعد زياراتها و معاينتها لعدة بيوت فخمة، استنتجت أن البيانو هو أحد أهم قطع الأثاث في منازل الأثرياء و كبار المسؤولين،
بشرط أن يتلاءم مع لون الأثاث و زخرفته، و ديكورات و تحف البيت أيضا،
و لا بأس من التعلم عليه، لعلها يوما ما، تفاجأ تلك النسوة بمعزوفة فريدة!!.
ما لم أفهمه، هو كيف لأصابعها الغليظة المنتفخة، و كفها الخشن الثقيل، أن يمر،
ولو برشاقة عازف مبتديء، من مفتاح لمفتاح.
الخالة أم عوض ربما أتتها الآن حالة تجلي، فقد ارتفع الإيقاع جدا، حتى بت أحس أن الجدران تهتز و كأنها تحاول الهروب من انهيار محتوم.
فكان أن حرمت من فنجان قهوة أمي، ومباشرة إلى أقرب مقهى، أخذت طاولة جانبية، طالبا الهدوء.
مع أول رشفة من الفنجان، بدأت الأفكار تراودني كيف أمضي الأسبوع، قبل العودة لعملي، مع إزعاجات الخالة أم عوض.
فهي و الحق يقال، من أطيب الجارات و أكثرهن بساطة و عفوية و لطف.
لم يكتمل فنجان القهوة إلا و كان ابنها عوض قادما باتجاهي.
-أول مرة أراك في المقهى، لم تعد تروقك قهوة الوالدة؟؟.
-اسأل أمك، صحيت من النوم، ظننت زلزال وقع، حتى طمنتني الوالدة أنه بيانو أمك.
ضحكة تطورت لتصبح قهقهة، تشفيا بي ربما، لكنه واساني أنه أيضا هارب من ثورات عزف أمه.
- تحملوها لأيام، البيانو ضيف جديد علينا، غدا تمل و تهجره، و هي الآن تريد كلب لتكتمل شروط الأكابرية عندها.
- و تكتمل سيمفونية أمك بين جنون البيانو و نباح الكلب.
بادلني الابتسام لكنه أتبعها بامتعاض و خجل من شغف أمه المفاجئ، و عرض علي الذهاب لشراء كلب، فربما التهت به عن جنون العزف و لترحم مفاتيح البيانو قليلا.!!
المشكلة أنها تريده كلب مستورد، و له ورقة ميلاد و تعريف،
بالمختصر تريده " كلب أكابر"
- أعرف محل يبيع كلاب محلية و شاردة، نشتري كلب صغير لطيف، و نسكت أمك به
- و شهادة الميلاد و بطاقة التعريف؟؟
- لا عليك، الكمبيوتر و النت يصنع المستحيل، شهادة مزورة و ينتهي الإشكال.
و فعلا تم الأمر، كلب جميل أبيض ذو فرو ناعم جدا، وهو أكبر من قطة بقليل، و ما يسمى نباح عنده، بلطافة مواء قطة مدللة.
تبقى أمامنا شهادة الميلاد و التعريف،
فتمت سرقة شعار إحدى مؤسسات رعاية الكلاب من النت، ووضعته على شهادة ميلاد، لكلب من نوع " هاسكي" خلق و ترعرع في روسيا.!!
- لكن الهاسكي بحجم نعجة، و كلبنا بحجم قطة؟؟
لم ألتفت لاستغرابه، لعلمي بسذاجة و بساطة أمه
- هو كلب و السلام، و أمك لن تعرف بسلالته و لا نوعه، كلب تلتهي به عنا.
كلب ب ألفي ليرة، ولا زالت الخالة أم عوض تظن أننا اشتريناه بالخمسين ألف ليرة التي أعطتنا إياها.
فرحة عوض و أبيه بعودة المال أسكتت ترددهم في هكذا تحايل بريء.
الأهم الآن أن تفرح الخالة و تتفرغ للكلب،
و كم أتمنى أن يمضي أسبوع راحتي بدون مقطوعات بيتهوفن و هي تسحق تحت وطأة مطارق أم عوض، و كم أحسد بيتهوفن ذاك، على طرشه قبل أن يسمع هذا الضجيج.
الكلب الآن أصبح أسمه " كيمو" و بات الآن شغلها الشاغل، لكنه انشغال هادئ مع بعض نباح خفيف،و المهم أنه نباح غير مزعج أبدا أبدا، و الراحة و الهدوء دامت طيلة أيام الإجازة.
ليأتي اليوم الأخير قبل عودتي للعمل، فأفاجأ ب عوض يطرق الباب،
نظرات حائرة، انعكست على ملامحه و طلته، فأظهرته امامي كمعتوه ساذج و مغفل.
- تعال شوف نتائج فعلتك
- لا تقل أن أمك اشتاقت للبيانو وتركت الكلب!!!
لم يضحكه جوابي رغم طرافته، من الواضح أن هناك أمر أكثر جدية من المزاح
- خير ما القصة؟؟، خبرني..
- أمي تريد منك أن تشتري ثلاثة كلاب، فكلبنا أشترته زوجة الوزير بمائة ألف ليرة، و ثمة معتوهات دفعن لها سلفا.
لم أتردد بعدها، فمددت الإجازة أسبوعا آخر، وبفضل أكابرية أم عوض و صديقاتها المترفات بالغباء، جمعت أنا و عوض خمس مائة ألف ليرة ربح خمسة كلاب، خلال أسبوع واحد فقط
و لا زالت الطلبات مستمرة.

