العِلْمُ نُور
أ.د. لطفي منصور
العِلْمُ نورُ اللِّهِ في أفْئِدَةِ العُلّماءِ يُبَدِّدُ ظُلْمَةَ الْجَهْلِ لِمَنْ يَكْتَسِبُهُ. العِلْمُ لا يولَدُِ مَعَ الإنسانِ وإنّما يُكْتَسَبُ مِنْ مَراكِز المَعْرِفَةِ اكْتِسابًا، مَثَلُهُ مَثَلُ التّرْبَيَةِ.
العلومِ نَوْعان: العلومُ النَّقْلِيَّةُ والعلومُ العَقْلِيَّةُ أو التطبيقِيَّةُ.
فالنقلِيَّةُ سُمِّيَتْ بهذا لأنَّها تجري بالنَّقْلِ والرّّوايَةِ كَعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالسُّنَّةِ، والتَّفْسيرِ والسِّيَرِ والقِراءاتِ القُرْآنِيَّةِ والمغازي، وعلومِ اللُّغَةِ والنَّحْوِ وَالصَّرْفِ، والأَدَبِ، والبلاغَةِ. وهي عُلومٌ لا تسلمُ مِنَ الخَطَأِ لِأَنَّها مُعَرَضَةٌ لِسَهْوِ الرُّواةِ والتصحيفِ، والتدْليسِ، والوَضْعِ وِعُيوبِ النَّقْلِ المعروفَةِ. ولِهَذا تحتاجُ إلى ضَبْطٍ شَديدٍ، عن طَريقِ عِلْمِ الْجَرْحِ والتَّعْديلِ، أو ما يُسَمَّى "عِلْمَ الرِّجال"، موهو ما يُمَيِّزُ الحضارَةَ الإسْلامِيَّةَ. فقد وَضَعَ عُلَماءُ المُسلِمينَ مُوَسَّعاتٍ كثيرَةً في دراسَةِ الرُّواةِ لتميِّيزِ الرُّواةِ العُدولِ الثِّقاتِ عن غَيْرِهم مِنَ المجروحينَ الذينَ شُكَّ في رِواياتِهِم. وَأشْهَرُ هَذِهِ الكتُبِ كِتابِ "الجَرْحُ والتَّعديل" لابن أبي حاتّم الرّازي، وكتاب الثِّقات لابن حِبّان، والكامِل في ضُعفاءِ الرِّجال، وكتابُ "الضُّعَفاءِ الكبير" لأبي جعفر العقيلي، وكتاب "الموضوعات" لعبدِ الرحمنِ بنِ الجوزي. وهناك عَشَراتُ الكتبِِ في الموضوعِ نَفسِهِ. فقامَ مُؤَلِّفوها بِغَرْبَلَةِ الرَّواياتِ جَميعِها فَأخرجوا الغَثَّ مِنَ السَّمين، والزَّيْفَ مِنَ الْعِقْيانِ. ومِثْلُهُم اشتغلَ أصحابُ الصِّحاحِ السِّتَّةِ، البخاري، مُسْلِمٌ، وَأبو دَاوُدَ، والنَّسائِي، والتِّرْمِذي وابنُ ماجَةَ. فشكَّلَتْ كُتُبُهُم مَصافَيَ للأحاديثِ النَّبَوِيَّةِ.
أمّا العلومُ العقليَّةُ فمصدرُها العَقْلُ المُفَكِّرُ، وَلَيْسَ الذّاكرةُ. وهيَ علومٌ دقيقّةٌ، لا تحتملِ الخطَأَوهي الرِّياضيّات، الطِّبُّ، الهندسَةُ، والفلسفَةُ، الموسيقى، وعلمُ الهيئَةِ (الفلك) والجغرافيا غيرها من العلوم التطبيقِيَّة.
بَرَعَ العَرَبُ في الطِّبِّ، وترجموا كُتُبَ جالينوسَ، وَأبُقراط (أبو الطِّبِ الأعظم). وترجموا معظمَ كُتُبِ اليونانِ في التاريخ والفلسةِ والنُّجوم، وغيرِها، عدا الشِّعرَ. لِأنَّهم اعتقدوا أنّ الشِّعْرَ العربِيَّ لا يُضاهيهِ شِعْرٌ في العالم. فَلَمْ يلتفتوا إلى الملاحِمِ اليونانيَّةِ كَالإلياذة والأوديسا ولا إلى الإنيادَة لفرجيل الرّوماني، ولَم يُعيروا إلى الشّاهنامة للفِرْدَوْسي (كتاب الملوك) أيَّ اعتبار، وهي الملحَمَةُ الوحيدةُ التي تُرْجِمَتْ إلى العربيَّةِ على يَدِ شاعِرٍ فارِسِيٍّ هو الفتح بنُ عليٍّ البنداري في القرن السابعِ الهجري. وهيَ قِمَّةٌ في الأدَبِ الإنساني. تحتوي الشّاهنامة على سِتَّةَ عَشَرَ أَلْف بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ الفارِسِيِّ، تَحْكي تاريخَ الفُرْسِ مِنْذُ نَشْأَتِهِمْ حتّى دخولِ خالدِ بنِ الوليدِ بِلادَهُمْ فاتِحًا.
لقد نِلْتُ شَرَفًا كبيرًا بامتلاكي الشّاهنامةَ المترجمَةَ من أحَدِ معارضِ مِصْرَ ، واتَّخَذْتُها مَصدَرًا للأدبِ الإنْسانيِّ، وَإنِّي أعتَزُّ بها لِأنَّ الأدَبَ العربِيَّ القديمِ قد تَأثَّرَ بالأدَبِ الفارسيِّ، يكفينا أن نذكرَ كتابَ ألف ليلة وليلة، وكتابَ كليلة ودِمنة، وما نُقِلَ من هذا الأدَبِ إلى أدبنا العربيِّ مع الجاحظِ وابنِ المقفَّعِ، والشُّعراء من أصلٍ فارسيٍّ كَأبي نُواس وبشّار.
لكن مَعَ الأسفِ فَإنَّ البنداريَّ لم يتَرْجِمْها شِعْرًا بَلْ نَثَرَها، ففقَدَتْ كثيرًا من جمالِها والجَرْسَ الموسيقيَّ لِشِعْرِها.
أسْلافِنا قَدَّروا العِلْمَ أكْبَرَ تقدير، وأعْطَوْهُ الأولَوِيَّةَ بعد العسكر. فَأقاموا المكتباتِ، ودورِ الترجمةِ، وسطعت شُمْسُ العَرَبِ في الشَّرْقِ والغَرْبِ.
إنّ سَبَبَ اهتمامِ العرَبِ بالْعِلمِ في القرونِ الوُسْطَى هو الإسلامُ الذي قَدَّسَ الْعِلْمَ. ففي القرآنِ نَجِدُ الآيَةَ(هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والَّذينَ لا يَعْلَمُونَ)، وفِي الحديثِ النبويِّ الشَّريفِ :"العلماءُ وَ رَثَةُ الأنبياءِ". الآياتُ القرآنيَّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيّةُ التي تَحُثُّ على طَلَبِ العلمِ كثيرَة.
وَأَختّتِمُ هذه المقالةَ بثلاثَةِ أبياتٍ في فضلِ الِْعِلمِ منسوبَةٍ إلى الإمامِ عليٍّ كرَّمَ اللَّهُ وَجْهَه، ويُقالُ إنَّها لابنِهِ الحسن: من البسيط
ما الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُمُ
عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلّاءُ
وَوَزْنُ كُلِّ امْرِئٍ ما كانَ يُحْسِنُهُ
وَالْجاهِلونَ لِأهْلِ الْعِلْمِ أَعْداءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تَزِدْ في الْخَيْرِ مَأْثَرَةً
فَالنّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أحْياءُ

