ذكرى وطن
نص : أ . جَنان السعدي
مرهقاً يهمُ بالمغادرة من بوابةِ الأمسِ
مازلتُ ألملمُ أشياءه
عطرهُ الزاكي وطفولتي وعنبرُ المشخابِ
كثيراً ما يُدغدغُ ذاكرتي
تنورُ الطينِ وهو يرسمُ لوحةً براقةً في وجهِ أمي
يمرُ بعجلاتهِ الدوّارة خلفَ جدرانِ بيتنا القديم
هديلُ الحماماتِ العالقةِ فوقَ الأسطحِ المتآخية
كرةُ المطاطِ التي أصابتْ جارتنا الحفافة دونَ عمدٍ
لتعيدها سيلاً من الشتائمِ والسباب
رحمَ اللهُ معلمي الأول وهو يرفعُ نظاراتهِ المتدلية على أنفهِ الطويل
كانَ يُدثرني بأبجديةٍ ينسابُ منها الوطن كالحرير
بالحبِ عيناهُ تهطلُ و بالحنين
يطيلُ التفكيرَ مع نوباتِ شهيقٍ لمْ نعلم فحواها
بكلِ نبوءاتِ المستقبلِ يصرخ
لا تبخسوا حقه
كصائغٍ يُجيدُ الصنعَ في جماجمنا
قبلَ أن نعي تغريدةَ الوطن
قبلَ أن نصابَ بدوارِ النحيبِ
قبلَ أن نلهمَ أطرافنا العليا والسفلى ونذهبَ للوضوء
على سبورةِ بيتنا البيضاء
كانَ يرسمُ أعواداً شاهقة
ينادي بأعلى الصوت
تسلقوها
لا تدعوهُ يُغادر
أيها الأصيلُ النادر
أستميحكَ عذراً
ألبسناهُ بدلةَ عُرسٍ
حينَ أسبلَ التأريخُ ذراعيه
في غفلةِ زمنٍ
لا يعودُ ولا يُعَد
نتفَ البعضُ أذياله
من التيهِ رددوا
سنُحرقُ أحشاءه
ألبسناهُ معطفاً يصبُ غيثاً هطّالاً
سرقوا الخاتمَ منهُ وبقايا الجيب
بلا إستحياءٍ
بصدأ السلاسلِ كبّلوهُ و بالقيود
بالمكيدةِ وعفونةِ الغدرِ إتهموه
مَنْ قدَّ قميصَ اليومِ
أبي
نمْ قريرَ عينٍ أيها الأصيل
مازالَ فينا مَنْ على الأكتافِ بكلِ فخرٍ
يحملُ الوطن
... ...

