-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

التحديث والبطل الإيجابي في المجموعة القصصية ... وليدة عنتابي

التحديث والبطل الإيجابي في المجموعة القصصية ... وليدة عنتابي

(ولاء صباحي) للأديبة توفيقة خضور
                       /سورية
تتجول عين الكاتبة مستقصية في التقاطها التصويري لتلك الحالات النفسية التي تتمظهر من خلال شخصياتها في إطار فنيٍّ مفتوح وبتكثيف يغوص في أعماقها , ليندّ عنها إلى عالمها الخارجي حاملاً لآلئ   القاع .
أطلّ من نافذة الإهداء لأرى الكاتبة وهي تنفي عن لغتها دخولها بيت الطاعة , ولكنها تستدرك نفياً محدّداً محاصراً في قولها : _(لم تدخل لغتي يوماً بيت الطاعة , ولن تدخل اليوم ) . فحبّذا لو استغنت عن كلمة ( اليوم) التي وقفت سدّاً حائلاً أمام مستقبلها .
بلغة شعرية غنية بالمجاز المرسل والإيحاءات لروح جنحتها التجربة , وأثرتها الخبرة ,والمخزون المعرفيّ تتناول الكاتبة قصصها في توظيف يخدم الحدث ويدور في فلك الشخصية كاشفاً ومحلّلاً , في  مفهوم يشتبك فيه اليومي بالأزليّ, ليرقى به الوصف في سياق يأبى أن يكون مجرد حشد أو توضيح يتجلى في قصة الصومعة_:(وعمّا قريب تتحول القرية  إلى ورشة عمل جماعيّ , فالناس مشغولون ببناء صومعة القدّيسة ..).وفي مقبوس آخر من نفس القصّة :_(فمن ينظر إلى الصومعة عن بعد يخيل إليه أن امرأة تسدّ الباب بجسدها العاري , فيجفل منتظراً مغادرتها , لكنها إذ تديم الوقوف يقترب متوجّساً , ليرى أنها مجرّد هيكل حجريّ على شكل امرأة , غير أنه مضطر لدخول الصومعة من بين ساقيها المنفرجتين ).
أعود إلى اللغة الشعرية بما فيها من مجاز موظف أرسلته الكاتبة حراً في فضاء نصوصها لينسج لها خصوصية مميزة , بكلمات سماتها التكثيف الذي يضخ في مفاصلها زيتاً مشعّاً , ففي قصتها (ولاء صباحي) تقول :( سكنت موسيقاه التي تسكب في مفاصلي زيت الرهبة ) و(لن تمحي سياطه روحي  بعد اليوم)وفي قصة (اخترت عريسي) ( ترجّ مجداف روحه) و( ما إن تثاءب باب الدار )
وفي قصة ( وقفة على الأطلال ) ( تأبطت أذرع الوجل) ..وغيرها من الجمل القصيرة الحارّة التي تكشف أعماق الشخصيات بشكل جميل وأسلوب رشيق متعال .
وتقدم لنا الكاتبة شخصياتها على بساط من نار , يجعل أقدام هذه الشخصيات تتقلقل وتحاول الخلاص , رغم اختلافها وتباينها
فبعضها تنبت له أجنحة في اتجاه الأبدية والآخر يحترق برغباته , وغيره يذرّ رماد خيباته  في ضبابية محيّرة , ففي (ولاء صباحيّ) وفي (كووول) نتعاطف مع الشخصية القلقة التي تستدرك تورطها بعد فوات الأوان , , وفي (الصومعة) و(من مشيته يعرف ال...) تجعلنا الكاتبة  نتقزّز من الشخصية المنحلّة , فيما تجعلنا نشعر بالاحتقار المشوب بالإشفاق لتلك الشخصية في قصة (سرّ الأربعين حورية) , وهذا يعني أن القصص قد حققت غاية الأدب بالتأثير في وجدان القارئ وحمله على اتخاذ الموقف الذي تمليه عليه إنسانيته .
وفي قصص عديدة من هذه المجموعة, يقف البطل الإيجابي طوداً في وجه الزوال والعدم الذي يكتنف واقعنا العربي , هذا البطل يفجّر في ذواتنا أسئلة وجودية كبرى . ففي قصتها عن الرصاص يفاجأ الطيار الأمريكي بعصفورة تحدّت جبروت طائرته ,  وقدوضعت بيضها في حاضن الذخيرة , فتستيقظ إنسانيته , ويرفض أوامر قيادته التي تسخر منه , وتأمر طياراً آخر بتنفيذ المهمة , وبينما كانت الطائرة تقصف قرية يحتفل أهلها بزفاف أحد أبنائها كانت العصفورة تكبّر في آذان فراخها فوق عشّ الرصاص ...
إنها الحياة مقابل العدم , والعصفورة هنا بطل إيجابي يتحدّى القسوة والدمار بالخصوبة , بالإضافة إلى الطيار الذي رفض الأوامر العسكرية انتصاراً للحياة وغم معرفته بنتائج هذا الرفض على مستقبله الشخصي ., فهل من صورة تستطيع رفع الحياة إلى هذا المستوى السامق أكثر من صورة طائر صغير يتحدى الزوال بالخصوبة ؟.
وفي قصة ولاء صباحي التي استحقت  المجموعة  أن تحمل عنوانها نجد أن الضمير هو البطل الإيجابي الصعب الذي يوقظ الساردة كل ويهزها من الأعماق كل صباح ليجعلها ترقص أمامه فرقاً , وتجدّد ولاءها الصباحي له لكنه لا يغيب
ورغم أنها تخونه عند السطوع, وترتمي في أحضان الحياة مستهينة بتعليماته ووخزاته ,إلا أنه يتجلى كبطلٍ إيجابيّ لا يهادن ,عندما تزور دولة العدو وتغنيّ فيها , مع أن تلك الزيارة كانت في المنام , ورغم أنها تؤكد له ندمها على ما ارتكب حلمها الأحمق . وأن الوسام الذي قلدوها إياه حرق صدرها وقد كشفت له عن مقلدها لتريه الوشم , لكنه رمق حروقها باستخفاف , ورحل . ورحيله ليس سلبياً , بل هو موقف فاعل , موقف البطل الذي لا يهادن ولا يتسامح عندما يتعلق الأمر بالمساس بالعقائد , حتى ولو في المنام . فما أعمقه من رحيل يهزنا من الأعماق , ويجعلنا نتمسّك بضمائرنا
ونقسم على ولائنا لها صباحاً ومساءً .
وفي قصة( البؤبؤ) تطالعنا تلك الشخصية الفذّة التي تشلع بؤبؤي عينيها وتلقمهما للمقلاع , لتضرب بهما طائرات العدو
إنها تؤشر إلى غليان تحت الرماد في انفجار يؤسس لعوالم جديدة  ترفل بالطهر والخلاص .
تتراوح قصص المجموعة بين تحليل اللاوعي  وبروز الوعي الذي يتمظهر من خلال الحياة الذهنية للشخصيات , يجري فيه التركيز على تقصّي عتبات الشعور , ويرتكز الحوار الداخلي غير المباشروالذي يرتفع بالتداخل بين ذهنية القارئ الشخصية كما في قصة ( المعبر) , وقصة (لا تغفري ) , ويتجلى الحضور التقليدي في وصف الوعي ( الحياة الذهنية الشخصية) متداخلاً أحياناً مع سواه من المقومات الفنية لتيار الوعي كما في (كرامات) و ( هات هو آت ) .
كما تنحو الكاتبة منحى تعتمد فيه مناجاة النفس , حيث تتعامل مع طبقة الوعي الأدنى إلى السطح , مما يتيح عنصر الارتباط حين تصور الشخصية من الداخل والخارج في تقديم جميل دون تدخل منها كمؤلفة , كما في قصتها ( صنع في الشرق ) .وينساب بنا التداعي  الحرّ كما في قصة (عمامة يسارية جداً) وقصة (مصداقية الأرصفة ).في حداثية تنأى عن العاديّ والسطحيّ . وقد تناولت الكاتبة في مواضيع فحصها المعاش باعتباره تجربة حيّة لشرائح  مختلفة من المجتمع رصدت من خلالها معاناتها كمبدعة وإنسانة وعضو فاعل في المنظومة الحيّة لهذا البلد العظيم الذي يحتوي في قلبه الكبير تطلعات أرواح تتمرّد على المتواطئ والمزيف والمستهلك , فنرى الكاتبة ترسم مسارها بدمها لا بلعاب تزلّفها على أعتاب المحسوب والمحال على المسند .
وقد لمسنا في الكاتبة  حبها لشخصياتها فهي تنأى بهم عن واقع يستنزف إنسانيتهم في سباق محموم للوصول , غير أنها لا تنسى تلك الأرواح  التي تستهلكها حمّى الدوران في فلك الزائل والأرضي على حساب قيمها ومثلها .
ولا بد من القول أخيراً أن الكاتبة توفيقة  خضور قد تناولت مواضيع قصصها في مجموعتها (ولاء صباحي) بلغة عالية                       
خصبة ومكثفة وعن أسلوب يدل على تمكنها من أدواتها الفنية , لتخرج قصصها في النور معتمرة غيوم صدقها لتمطر بالعفوية والمعافاة .

عن محرر المقال

Unknown

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية