أ.د. لطفي مَنْصورُ
مَعَ قَصِيدَةِ الشّاعِرِ الْأَلِقِ الْأُسْتاذ جِرْيِس دبيات الَّتي عارَضَ بِها قَصِيدَةَ عَلِيِّ بنِ زُرَيْقٍ الْبَغْدادِيِّ:
سَأَتَعامَلُ مَعَ قَصِيدَةِ جِرْيِس كَأَنّها مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ قَصِيدَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِراكِهِما في الْوَزْنِ والْقافِيَةِ وَالرًَوِيِّ، وَكَذَلِكَ في أَجْواءِ قَصيدَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ عِلِيُّ أبي الْحَسَنِ الْبَغْدادِيِّ الشّاعِرِ الْكاتِبِ.
تَقَرَّرَ عِنْدِي بَعْدَ ظَفَرِي بِحَقائِقَ حَوْلَ قَصِيدَةِ ابنِ زُرَيْقٍ تُنْشَرُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَصِلْها أَحَدٌ قَبْلِي، وَكُنْتُ عَلى وَشَكِ نَشْرِها، لَكِنِّي آثَرْتُ رَبْطَها مَعَ قَصيدَةِ جُرْيِس الَّتِي نالَتْ إعْجابِيَ الْكَبيرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَتْ فَنَّ النَّظْمِ.
الرِّوايَةُ الشَّائِعَةُ بَيْنَ النّاسِ،حَوْلَ عَلِيِّ بنِ زُرَيْقٍ الْبَغْداديِّ وَقَصِيدَتِهِ الْوَحِيدَةِ (لا تَعْذِليهُ …) تَقولُ إنَّ ابْنَ زُرَيْقٍ ، الَّذي تُقَدَّرُ وفاتُهُ سِنِةَ (٤٢٩ هج) قَدْ تَرَك زَوْجَتَهُ عَروسًاً، وَسافَرَ إلى الْأَنْدَلُسِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنْ أُمَرائِها فَلَمْ يَحْصُلْ عَلى مُبْتَغاهُ، فَاغْتَمَّ وَمَرِضَ وَماتَ، وَوَجّدُوا قَصِيدَتَهُ الوَحِيدَةَ تَحْتَ رَأْسِهِ.
هَذِهِ الرِّوايَةُ لَيْسَ لَها أَساسٌ مِنَّ الصِّحَّةِ. وَحَتّى سَفَرُهُ إلى الْأَنْدَلُسِ مَشْكُوكٌ فِيهُ، لَمْ يُذْكَرْ إلّا في بَعْضِ الْمَصادِرِ المْمُتَأَخِّرَةِ الَّتي لا يُعَوَّلُ عَلَيْها.
يَقولُ صَلاحُ الدِّينُ الصَّفَدِيُّ في تَرْجَمَةِ ابنِ زُرَيْقٍ (الوافي بِالْوَفَيات ٢١: ٧٧) إنَّ ابنَ زُرَيْقٍ قَدْ أَنْشَدَ الْعَمِيدَ أَبا نَصْرٍ وَزِيرَ الْمَلِكِ السَّلْجُوقيِّ طُغْرُلْ بِكْ قَصِيدَتَهُ هَذِهِ.
وَيَقُولُ ابْنُ حَجَّةَ الْحَمَوِيُّ في كِتابِهِ (ثَمَراتُ الْأَوْراقِ ، ص: ٤٧٤-٤٧٥) بِإسْنادٍ لَهُ مَخارِجُ ثَلاثَةٌ عَنْ أَبي الْهَيْجاءِ محمّدِ بن عِمْرانَ بْنِ شاهِينَ (كانَ حَيًّا سَنَةَ ٤١٢ هج) قالَ: أَنْشَدَنِي عَلِيُّ بنُ زُرَيْقٍ الْبَغْدادِيُّ لِنَفْسِهِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ إلى آخِرِها.
وَمِنَ النُّقادِ مَنْ يَرَى أَنَّ قَصيدَةَ ابنِ زُرَيْقٍ تُعْتَبَرُ مِنْ شِعْرِ الظَّرْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بنِ أَحْمَدَ بنُ حَزْمٍ قالَ: (مَنْ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ ، وَقِرِأَ لِأَبي عَمْرٍو عُثْمانَ بْنِ سَعِيدٍ الْقُرْطُبِيِّ، وَالْفِقْهِ الشّافِعِيِّ، وَحَفِظَ قَصِيدَةَ ابْنِ زُرَيْق فَقَدَ اسْتَكْمَلَ الظَّرْفَ).
تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ أَيْ لَبِسَ خاتَمًا مِنَ الْعَقِيقِ وَهُوَحَجَرٌ كَريمٌ. وَالظَّرْفُ هُوَ الْكَمالُ وَالْهَزْلُ وَالْمُفاكَهَةُ.
وَقَرَأْتُ في بَعْضِ المَصادَرِ الْقَديمَةِ - وَأنا صادِقٌ فيما أَقُولُ - أَنَّ الْأَبياتَ السِّتَّةَ الَّتي تَحْكِي عَنِ الرِّزْقِ الْمُقَدَّرِ هِيَ لِشاعِرٍ آخَرَ انتَحَلَها ابْنُ زُرَيْقٍ وَأَضافَها إلى قَصِيدَتِهِ.
تَصِفُ القَصيدَةُ لَواعِجَ الْعِشْقِ الشَّديدِ والنَّدَمَ عَلى مُفارَقَةِ النَّعيم، لِذا أطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلى الْقَصِيدَةِ اسمَ الْمُفارِقَةَ.
الْعَجَبُ أنَّ أَحْمَدَ بْنَ ثابِتٍ الْبَغْدادِيِّ مُؤَلِّفَ مَوْسوعَةَ تاريخ بَغْدادَ، وَكانَ مُعاصِرًا لِابنِ زُرَيْقٍ لَمْ يَذْكُرْهُ في مَوْسوعَتِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أيْضًا في مَوْسُوعَةِ ذَيْل تاريخْ بَغْداد لِابنِ النَّجار.
قامَ شاعِرُنا الْأُسْتاذ جِرْيِس دُبَيات بِنَظْمِ قَصِيدَةٍ عارَضَ فيها قَصيدَةَ ابْنِ زُرَ يْقٍ ، جَعَلَها عَلى لِسانِ زَوْجَتِهِ الَّتِي كانَتْ تَنْتَظِرُ عَوْدَتَهُ سالِمًا غانِمًا، وَكُلَّما طالَتْ أَيّامُ غِيابِهِ زادَ قَلَقُها عَلَيْهُ، وَباتَتْ عَلى أَحَرَّ مِنَ الْجَمْرِ.
نَحْنُ لا نَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ زَوْجَةِ ابْنِ زُرَيقٍ الَّتِي قالَ فيها بَيْتَهُ الْمَشْهُورَ فُيها:
أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ في بَغْدادَ لِي قَمَرًا
بِالْكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الْأَزْرارِ مَطْلَعُهُ
لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمَصادِرِ الَّتِي ذَكَرَتْ ابْنَ زُرَيْقٍ زَوْجَتَهُ تِلْكَ، وَهَذا يَزَيدُ الشَّكَّ في قِصَّةِ نِهايَةِ ابنْ زُرَيْقٍ .
يُمْكِنُنا تَقسيم الْقَصيدَةِ الْمُعارِضَةِ إلى خَمْسَةِ أقْسام:
قَصيدَةٌ قِمَّةٌ في الْوَجْدَ وَالْحَنانِ وَالشَّوْقِ إلى الزَّوْجِ الْعائِبِ الذي تَرجو رُجُوعَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
تَعْذِلُهُ عَلَى سَفَرِهِ هَذا، بِرَقيقِ الْقَوْلِ وَأَلْطَفِهِ، وَكادَ الْيَأْسُ يَقْتُلُها، وَهِيَ بَيْنَ الرَّجاءِ وَالْخَيْبَةِ فَتَقُول: مِنَ الْبَسيط
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
- يَشْكُو إلى اللَّهِ مُضْنَى الْقَلْبِ مُوجَعُهُ
سَلَبْتَ مَنْهُ الْهَنا مَنْ ذا سَيُرْجِعُهُ
(تَشْكو إلى اللَّهِ زَوْجَها سَفَرَ زَوْجِها الَّذي
سَلَبَ مِنها مُتْعَةَ الزَّواجِ وَالْهَناءِ، وَوَصْفٌ لِلْعَروسِ الْمَتْروكَةِ)
- تَرَكْتَهُ غارِقًا في الْعُرْسِ يَزِينُهُ
ثَوْبُ الزَّفافِ وَفي الْحَنّاء إصْبَعُه
(تَسْأَلُهُ: مَنْ يَتْرُكُ عَروسَهُ في مِثْلِ هَذِهِ الْحالِ بُغْيَةَ الْمالِ وَعِنْدَهُ الْغِنَى كُلُّهُ؟)
- كَالظَّبْيِ يَرْقُصُ زَهْوًا مُقْمِرًا ثَمِلًا
بَحْرُ التَّهانِي وَلَيْلُ الْأُنْسِ مَرْتَعُهُ
(صِفاتٌ لِلْعَروسِ الْمَتْروكَةِ فيها إبْداعٌ كَبيرٌ:
كَالظَّبُيِ عُيونًا وَمَرَحًا، سَيْلٌ مِنَ التَّهاني، وَجْهٌ كَالْقَمَرِ، عُيونٌ ذابِلَةٌ كَالثَّمِلَ)
- عَلَى يَدَيْكَ رَأى يُمُناهُ آمِنَةً
وَأَنْتَ تُوكِلُهُ لِلدَّهْرَ يُوقِعُهُ
(أَكْثَرُ ما تَكُونُ الْمَرْأَةُ آمِنَةً وَهِيَ قُرْبُ زَوْجِها، فلِماذا تَرَكْتَها فَرِيسَةً لِلْخُطوبِ؟)
- يا سائِلِي أنْ أَصُونَ الْعِرْضَ غَيَّبْتَهُ
كَشَفْتّ عِرْضِي فَقُلْ لي كَيْفَ أَمْنَعُهُ
(تَسْأَلُني صَوْنَ الْعِرْضِ؟ أخْبِرْني كَيْفَ هذا وَأنْتَ حامِي الْعِرْضِ)
القَسْمُ الثّاني:
مُبَرِّراتُ السَّفَرِ:
- لَوْ سَرْتَ في الْجَيْشِ قُلْتُ الْفَتْحُ غايَتُهُ
وَحَسْبُهُ أَنَّهُ لِلَّهِ مَرْجِعُهُ
- أوْ كُنْتَ لِلْعِلْمِ تَسْعَى قُلْتُ حُجَّتُهُ
إنَّ الرَّسُولَ دَعا لَلْعِلْمِ يَرْفَعُهً
- أَوْ كُنْتَ تَبْغِي صَلاحًا في الْوَرَى وَهُدًى
لَقُلْتُ أَمْرُ كِتابِ اللَّهِ يَشْرَعُهُ
(لا مُبَرِّرَ عَنْدَكَ:لَيْسَ اشتراكًا في الْفُتوحِ ، لا طَلَبًا لِلْعِلْمِ وَلا إصْلاحَ ذاتِ الْبَيْنِ ، وَإنَّما رَغْبَةً في المالِ، وَاعْلَمْ أنَّ كَثْرَةَ الْمالِ مَفْسَدَةٌ)
- أَوْلَى بِشِعْرِكَ مَنْ أَوْلاكَ مُهْجَتَهُ
وَأَشْرَفُ الرِّزْقِ ما بِالْجُهْدِ مَجْمَعُهُ
(أنا الَّتي أَوْلَتْكَ مُهْجَتَها خَيْرٌ لَكَ مِنْ شِعْرِكَ. وَاعْلَمْ أنَّ الرِّزْقَ مُقَدَّرٌ لا بِالْجُهْدِ)
القِسْمُ الثالِثُ:
الْحَنَينُ وَاللَّوْعَةُ: تدعو لِلرِّفقِ بِهِ.
- يا حادِيَ الْعِيسِ خَفِّفْ وَقْعَ غُرْبَتِهِ
يَوْمِي دُعاءٌ وَلَيْلي الشَّوْكُ مَضْجَعُهُ
(كانوا يُسافِرونَ قَوافِلَ، الْعِيسُ: الْإبِلُ الْبَيضاءُ وهي أَجْوَدُها. وَقَدْ أحْسَنَ الشّاعِرُ وَصْفَ عذابِ الْمَرْأَةِ في غِيابِ زَوْجِها الطَّويل)
- رَفيقُ دَرْبي الَّذي تَصْفُوا مَوَدَّتُهُ
أَبْقِيهِ في الْقَلْبِ مَهْما شَطَّ مَوْقِعُهُ
( العَلاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ تَنْقَلِبُ في كَثيرٍ مِنَ الْحالاتِ إلى عِشْقٍ مُطْبِقٍ)
- ضاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ إنِّي لَسْتُ أَعْذُلُهُ
وَهاجِسُ الْبَيْنِ يُضْنِيهِ وَيوجِعُهُ
(هَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ كَشَفَتْ عَنْ حَقيقَتِها، فَهِيَ لا تَلُومُ حَقيقَةً بلْ تَفْهَمُ دَوافِعَ زَوْجِها)
القسْمُ الثّالِثُ:
السَّعْيُ في طَلَبِ الرِّزْقِ وَمُحاوَلاتِ الزَّوْجَةِ إقْناعَ زَوْجِها بِعَدَمِ السَّفَرِ:
- لَوْ كانَ بابُ النَّوَى رِزْقًا لَأَوْسَعَهُ
لَكِنْ لُلرِّزْقِ رَبًّا وَهْوَ يُوسَعُهُ
- ما عادَ مِنْ كُتُبِ الْأَمْثالِ مِنْ مَثَلٍ
إلّا ذَكَرْتُ لَهُ ما لَيْسَ يُقْنِعُهُ
- يُريدُ مِنِّي سُكُوتًا وَهْوَ يَعْرِفُنَي
أنِّي أُوَدِّعَ عُمْرِي لا أُوَدِّعُهُ
- وَإنَّ مَوْتِي عَلَى زِنْدَيْهِ أَكْرَمُ لِي
مِنْ كُلِّ مالٍ إلى زَنْدِيَّ يَدْفَعُهُ
(إيثارٌ رائِعٌ قَلَّ مَثِيلُهُ)
- وَإنَّ كِسْرَةَ خُبُزٍ في مَعِيَّتِهِ
أَلَذُّ مِنْ خُبْزٍ عِيسَى إذْ يُوَزِّعُهُ
- يُرِيدُ مِنِّي سُكوتًا وَالْمَدَى ظُلَمٌ
وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ ما يُخْشَى تَوَقُّعُهُ
- يا حادِيَ الْعِيسِ رُدَّ الرَّكْبَ عَلَّ يَدًا
تَرُدُّ الْعُمْرَ نَسْغًا جَفَّ مَنْبَعُهُ
الْقَسْمُ الرّابِعُ:
زَفِيرُ الغَضَبِ الْمَكْبُوتِ:
كَالنَّمْلِ الطّائِرِ الَّذي يَلْقَى مَصْرَعَهُ، لا غِنَى عَنِ الْأَهْلِ ، جَوْرُ الْوُلاةِ، لا بَديلَ لِلْوَطَنِ ، الْفُتاتُ في الْأَمْنِ خَيْرٌ، الْغَنَى غِنَى النَّفْسِ، الْفُراتانِ كافِيانِ.
- يا ناقِلًا في رُبُوعِ الْكَرْخِ خُطْوَتَهُ
وَأَطْيَبُ الرِّزْقِ في عَيْنَيْهِ أَسْرَعُهُ
- كَالنَّمْلِ يَحْمِلُهُ طَيْشُ الْجَناحِ إلى
ذُرَى الْأَمانِي بَعِيدًا ثُمَّ يَصْرَعُهُ
- في الْكَرْخِ صَوْتُكَ يَلْقَى رَدَّ سامِعِهِ
وَفي دُرُوبِ النَّوَى لا أُذْنَ تَسْمَعُهُ
- وَالْأَهْلُ كَالْمِلْحِ لا تُغْنَيكَ عَنْ يَدَهِم
يَدُ الْوُلاةِ بِما لَلشِّعْرِ تَصْنَعُهُ
- وَصاحِبُ الْجاهِ يَجْزِي مَنْ يُمالِقُهُ
وَلَيْسَ يُجْزَى الَّذي بِالْحَقِّ يَصْدَعُهُ
يا خائِبَ الرَّأْيِ ما في الْأَرْضِ ناحِيَةٌ
أَعَزُّ مِنْ وَطَنٍ غالٍ تُضَيِّعُهُ
- إنْ تَغْنَ نَفْسُ الْفَتَى فَالْبَطْنُ يُصْلِحُهُ
بَعْضُ الْفُتاتِ وَبَعْضُ الْقُوتِ يُشْبِعُهُ
- هُنا الْفُراتانِ فَيْضُ الرِّزْقِ بَيْنَهُما
يَكْفِيكَ إنْ رُحْتَ بِاسمِ اللَّهِ تَزْرَعُهُ
لِلّهِ دَرُّ شاعِرَنا كَيْفَ تَقَمَّصَ روحَ زَوْجَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ ونَطَقَ عَنْها كُلَّ ما جاشَ في خاطِرِها.
أَكْبِرْ بِقُوَّةِ هذا الْخَيالِ الْخَصِيبِ، وَالْقَريحَةِ الْمُواتِيَةِ لِلطَّبيعَةِ الشاعِرَةِ.
القسمُ الْخامِسُ:
خاتِمَةُ القَصِيدَةِ:
أبْدَعَ الشّاعِرُ في تَصْوَيرِ أَجواءِ قَصِيدَةِ ابْنِ زُرَيقٍ ، مِمّا يُذْهِلُ الْقارِئَ، يَشْعُرُ أَنَّهُ يَعِيشُ الْحَدَثَ نَفْسَهُ. يَأْسَى لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتي قَهَرَتْها نَوائِبُ الدَّهْرِ، فَتَتَحَسَّسُ الْأَنْباءَ عَسَى أَنْ تُنِيرَ لَها وَمْضَةٌ مِنَ الْأَمَلِ . ماذا يَرُدُّ عَلَيْها الْعِتابُ، وَلَمْ يَبْقَ لَها إلّا رَحْمةُ رَبِّها فَفَزَعَتْ إلى الدُّعاءِ وَالِابْتِهالِ :
- وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَنْزٌ أَنْتَ مالِكُهُ
فَكَيْفَ تَهْجُرُهُ عَمْدًا وَتَخْلَعُهُ
- يا سارِيَ الْوَعْدِ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ غَدًا
خُسْرًا عَلَى غُرْبَةٍ كَالسُّمِّ نَجْرَعُهُ
- يا عالِمَ الْغَيْبِ لا أَشْكُو إلى أَحَدٍ
أَضَعْتُ عُمْرَي فَمَنْ إلّاكَ يَجْمَعُهُ
- قَدْ كانَ قَلْبِي دَلَيلي يَوْمَ أسْأَلُهُ
فَصارَ هَمْسُ سُؤالِي الْيَوٍمَ يُزْعِجُهُ
- إلَيْكَ أَشْكُو فَقَدْ أَمْسَيْتُ عاجِزَةً
أَنُوءُ بِالْحِمْلِ لَكِنْ لَسْتُ أَرْفَعُهُ
- يا عالِمَ الْغَيْبِ أَضْناني الْحَنِينُ إلى
وَجْهِ ابْنِ عَمِّي فَقُلْ لَي أَيُنَ مَوْقِعُه
- قُلْ لِي وَهَلْ يا تُرَى أَحْظَى بِرُؤْيَتِهِ
يَعُودُ لِي سالِمًا وَالسَّعْدُ يَتْبَعُهُ
- أَخٌشَى عَلَى الْعَيْنِ تَعْمَى قَبْلَ فَرْحَتِها
وَبَعْضُ لُطْفِكَ يُبْقيها وَيُطْلِعُهُ
- أَصُونُ عَهْدِي لَهُ حَتَّى يُشَيِّعَنِي
إلَى تُرابِي وَأَدْعُو لا أُشَيِّعُهُ
- يا عالِمَ الْغَيْبِ ضاقَ الصَّبْرُ وَاحْتَرَقَتْ
مِمّا أُعانِي مِنَ الْوَيْلاتِ أَضْلُعُهُ
- وَرَقِّ لِيْ الصَّبْرَ فِيما عِشْتُ واحِدَةً
كَأَنَّ دَمْعَي الَّذي أُخْفِيهِ أَدْمُعُهُ
- ما كَلَّفَ اللَّهُ نَفْسًا فَوْقَ طاقَتِها
وَلا لَوَى وَجْهَهُ عَمَّنْ يُشَفِّعُهُ
وَبَعْدُ،
راقَتْنِي هَذِهِ الْقَصيدَةُ لَيْسَ أَقَلَّ مِنْ قَصِيدَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ فَنًّا وَضَبْطًا وَتَأْثِيرًا في النَّفْسِ، وَالصُّوَرِ الشِّعْرِيَّةِ لِلَواعِجِ الْحُبِّ، وَحُرْقَةِ الشَّوْقِ وَلَوْعَةِ الْحَنينِ، وَخَلَجاتِ النَّفْسِ وَهَواجِسِها، فَقَدْ أَبْدَعَ الشّاعِرُ جريس دُبَيّات
إذْ جَعْلِ الْقَصيدَةَِ رِسالَةً خُلُقِيَّةً وَأَدَبٍيَّةً وَإيمانِيَّةً تَرْبَوِيَّةً لِلْأَجْيالِ الْحالِيَّةِ وَالْقادِمَةِ.
تَمَّتْ.
لطفي منصور
