طرق الحجاج بين عهدين
كتب : أ . أحمد صالح حلبي
شكلت منطقة الحجاز منذ عقود مضت أرضا خصبة للباحثين والدارسين في العديد من المجالات ، وأثارت خلال الفترة الاستعمارية للدول العربية والإسلامية قلقا للحكومات الاستعمارية التي انتباها الخوف من توجه بعض سكان المستعمرات المسلمين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ، وزيارة المسجد النبوي الشريف ، فعملوا على تدريب وتجنيد عدد من ضباط وأفراد المخابرات بهدف التعرف على رحلة الحج ، وإصرار المسلمين على أدائها رغم صعوبة الطريق ومشقة السفر ، وغياب الأمن والأمان على الطرق ، فكانت أولى الخطوات متمثلة في إعداد وتأهيل الجواسيس ، وتعلميهم اللغة وإتقانها بشكل لا يثير الشبهات ، وتدريبهم على العادات والتقاليد الإسلامية ، ودسهم وسط قوافل الحجاج ليتمكنوا من تدوين تفاصيل الرحلة ، وكان من بين الرحالة الجواسيس الإسباني دومينغو فرانثيسكو باديا ، الذي عرف لاحقا باسم علي باي العباسي ، وهو أول إسباني يدخل مكة المكرمة ، والألماني جوهان وايلد وغيرهم ، والذين وجدوا في الوصول إلى مكة المكرمة فرصة ليدونوا مشاهداتهم ، وينقلوا لحكوماتهم ما يبحثون عنه .
وكما وصل جواسيس أوربيون وصل أيضا جواسيس روس ، ومنهم ضابط المخابرات الروسي عباس قولي آغا باقي خانوف الذي توفي نتيجة إصابته بالكوليرا ، وقيل أنه دفن في وادي فاطمة عام ١٨٤٦م ، ولم يكن دولشتين ضابط المخابرات الروسي ، الذي عرف لاحقا باسم ( عبدالعزيز دولشتين ) ببعيد عن سابقيه ، فقد عمل على تنفيذ أوامر قادته ، لكنه امتاز عن غيره بكونه مسلما ، فحينما قامت السلطات الروسية بإرساله إلى الحجاز للعمل على جمع المعلومات وإعداد التقارير عن مشاهداته للحج والمسلمين القادمين من شتىء بقاع العالم ، بين عامي 1898 و1899، استفاد من وجوده فأدى فريضة الحج ، وعمل على إصدار كتابه ( كتاب الرحلة السرية للعقيد الروسي عبدالعزيز دولشتين إلى الحجاز سنة 1898 ـ 1899 م ) .
وتضمن الكتاب ، قائمة بالحجاج المسلمين (ما عدا حجاج روسيا) خلال الفترة من 16 تموز (يوليو) 1890 إلى أول تموز 1894 م ، وقائمة السفن التي دخلت مرفأ جدة بالحجاج من 16 تموز (يوليو) 1890 إلى أول تموز 1894 م ، وقائمة الادلة والوكلاء (بموجب تقرير القنصل في جدّة) عن سنة 1893
ووزع الكتاب إلى عدة فصول ، فتناول الفصل الأول : سري : تقرير دولتشين عن رحلته إلى الحجاز ، فذكر الحدود ، وطوبوغرافية السطح ، والنباتات والحيوانات ، والمناخ ، والسكان (خارج المدن) ، والتجارة والصناعة عند السكان الرحل ، والوضع السياسي في الحجاز ، والتقسيمات الإدارية ، والقوات المسلحة ، وميزانية الحجاز .
وفي الفصل الثاني : تناول دولشتين أساليب وسبل حركة الحج في الحجاز ، وخصائص ظروف المواصلات ، والقافلة والركب ، البدو وعمليات النهب والاعتداء ، والمحملان السوري والمصري
، وسبل الحجاج في الحجاز ، والطريق من جدّة إلى مكة ومنها إلى عرفات ، والسبل بين مكة والمدينة المنورة ، والطريق بين المدينة المنورة وينبع ، ومسيرة المحمل السوري ، ومسيرة المحمل المصري (من المدينة المنورة إلى الوجه)
أما الفصل الثالث : فتحدث فيه عن مكة المكرّمة والمدينة المنورة وغيرهما من النقاط الآهلة في الحجاز وأهميتها من حيث الحج ، مكة المكرّمة ، موقع المدينة ، البيوت ، المباني العامة ، الشوارع ، السكان ، أشغال سكان مكة ، النظام النقدي ، تجارة الرقيق ، الظروف الصحية في مكة ، الماء ، حالة البيوت ، حالة الشوارع والبازارات ، المسلخ ، المقبرتان ، الظروف المناخية في مكة ، المستشفى والصيدليات ، السلطات الادارية والقضائية في المدينة ، البريد والبرق ، مدينة الطائف ، المدينة المنورة ، الشوارع ، البيوت ، سكان المدينة وأشغالهم ، الظروف الصحية في المدينة المنورة ، الماء ، حالة البيوت ، حالة الشوارع ، المسلخ ، المقبرة ، الظروف المناخية ، المستشفى ، المدارس الدينية في المدينة المنورة ، المكتبات ، سلطات المدينة ، البساتين في ضواحي المدينة المنورة ، المدينة المنورة بوصفها .
ينبع. موقع المدينة والبيوت ، السكان وأشغالهم ، الظروف الصحية في ينبع ، الظروف المناخية ، سلطات المدينة ، جدّة
وفي الفصل الرابع : تحدث عن الحج عموما ، ما هو الحج ، المسجد الكبير في مكة ـ المسجد الحرام ـ ، الآيات القرآنية المتعلقة بالحج ، شعائر الحج ، زيارة الآثار في ضواحي مكة
السجود أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، المسجد الكبير ـ المسجد النبوي الشريف ـ في المدينة المنورة ، زيارة الآثار الأخرى في ضواحي المدينة المنورة
وخص دولشتين الفصل الخامس : للحديث عن حج المسلمين الروس ، فذكر عدد الحجاج المسلمين الروس سنة 1898 م ، فذكر أصناف الحجاج ، الأسباب الرئيسية التي تحمل على الحج ، مقدار المبلغ الضروري لأجل الحج ، الاستعدادات للسفر
الحصول على جوازات السفر ، الخروج من حدود روسيا القسطنطينية بوصفها نقطة متوسطة هامة ، السفر إلى جدّة ، النزول في جدّة أو في ينبع ، الرأس الأسود ، الانتقال إلى مكة ، الوصول إلى مكة ، والإقامة في مكة قبل الانطلاق إلى عرفات ، الانطلاق إلى عرفات ، الإقامة في عرفات ، المزدلفة ، منى ، العودة إلى مكة ورحيل الحجاج ، الانتقال إلى المدينة المنورة ، الإقامة في المدينة المنورة .
الذهاب إلى ينبع ، الإقامة في ينبع ، المحجر الصحي في الطور ، المحجر الصحي في بيروت ، زيارة القدس ودمشق والقاهرة ، عودة الحجاج إلى روسيا ، تأثير الحج في مسلمينا ، تأثير حجاجنا في سكان الحجاز ، تأثير سائر الأمم الأوروبية
وخصص دولشتين الفصل السادس : للحديث عن الحجاج القادمين من الدول الأخرى وهم ، القشغريون ، الفرس ، الاتراك ، السوريون ، المصريون ، المغاربة ، الأفغان ، سكان الهند ، الماليزيون ، سكان الساحل الشرقي من افريقيا ، سكان الجزيرة العربية
وفي الفصل السابع : تحدث عن الكوليرا في الحجاز ، الأوبئة المعروفة في القرن الحالي ، الأسباب التي تساهم في نشوب واشتداد الأوبئة في الحجاز ، طبقة الحجاج المعدمة .
وإن كان دولشتين قد دون في كتابه ( الرحلة السرية ) بعضا من الأحداث والمواقف التي كان يتعرض لها الحجاج ، فإن عبارة ( الذاهب للحج مفقود والعائد منه مولود ) ، التي كانت تردد على الألسن لكل من أراد أداء فريضة الحج ، أشار إليها دولشتين بقوله : "سمعت بين الناس شتى الإشاعات والمخاوف عن هجوم البدو؛ اليوم سلبوا أحد الحُجاج 5 ليرات، وقتلوا آخر وأخذوا 40 ليرة، في حضوري جاء جندي وأبلغ الضابط أن رفيقه الذي راح معه من جدة إلى مكة قتلوه بالحجارة" .
كما نقل أمير الشعراء أحمد شوقي صورا من تلك المعاناة ، وطالب الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ العمل على بسط الأمن بالحجاز فقال :
ضَجَّ الحِجازُ وَضَجَّ البَيتُ وَالحَرَمُ
وَاِستَصرَخَت رَبَّها في مَكَّةَ الأُمَمُ
قَد مَسَّها في حِماكَ الضُرُّ فَاِقضِ لَها
خَليفَةَ اللَهِ أَنتَ السَيِّدُ الحَكَمُ
وبعد أن وحد الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن ـ رحمه الله ـ ، أرجاء الجزيرة العربية ، واعلن تأسيس المملكة العربية السعودية ، أخذت قوافل الحجيج تتوافد على البقاع الطاهرة بشكل منتظم ودون خوف أو قلق ، ودون أمير البيان شكيب أرسلان في كتابه ( الإرتسامات اللطاف في خاطر الحاج لأقدس مطاف)، إعجابه بما رأى وسمع عن استتباب الأمن فقال : " لو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال على الأرواح والأموال التي جعلت صحاري الحجاز وفيافي نجد، آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافياً في استجلاب القلوب واستنطاق الألسن في الثناء عليه" ،
ودون أستاذ الشريعة في جامعة القاهرة ، الأستاذ / عباس متولي في كتابه "مشاهداتي في الحجاز" 1354 هـ ، وصفا لمسه من توفر الأمن في طرق الحجاج ، بعد أن تعطلت بهم السيارة في الطريق من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ، فقال: «جاء بعض الأعراب يطلبون إحساناً، فتقدم إلي أحدهم يطلب مني صدقة فأعطيت غيره متظاهراً بالغنى والثراء، فقال أعطني يا حاج، فقلت خذ ما تريد من جيبي! فقال: حرام عليك وما جنيت ؟ أتريد قطع يدي لا يا بوي لا أطلب شيئاً، فقلت : إننا في عزلة عنهم (يقصد بذلك الحكومة) ، فازداد الرجل إصراراً. فدهشت لهذا ورددت قول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه (إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن) وأعطيته ما تيسر، ولقد مكثنا في مكاننا إلى ساعة متأخرة من الليل ، أحضروا أثناءها الماء واللبن وأكرموا وفادتنا من غير أن يتعرض أحد منهم لنا بسوء». ويقول: "استتباب الأمن بهذا الشكل لم يوجد في الحجاز إلا بعد تنفيذ شريعة الله، وإقامة حدوده".
للتواصل ahmad.s.a@hotmail.com

