بمناسبة الذكرى الأولى لعيد القصة القصيرة جدًا
أ . فوزية الكوراني/ سوريا
أحببت أن أقدم بحثي هذا الذي أخذته من عدة مصادر يطول ذكرها وايضًا من خلال دراستي لعلوم التفسير
إذ أحببت المقاربة بين القرآن وبين القصة القصيرة جدًا
ولكي نقول أن القصة القصيرة جدًا وانتشارها كان من القرآن الكريم؛ إذ قال الله تعالى في كتابه الكريم :
( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ) ذكره بالنص القصي..
وكلنا يعلم أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف..
والمقصود من نزوله على سبعة أحرف مع اختلاف العلماء في هذا؛ فقد كان لكلّ منطقةٍ من المناطق العربيّة لغةٌ عربيّةٌ تختلف عن الأخرى، كلغة أهل قريشٍ الّتي تكلّم بها رسول الله صلى عليه وسلم ، ولغة هذيل ولغة أهل اليمن وغيرهم، فأنزل الله-تبارك وتعالى- القرآن الكريم على سبغ لغاتٍ من لغات العرب، وقد أيّد هذا القول القاسم بن سلّام وابن عطيّة وغيرهم..
تناسب القرآن الكريم مع الثّقافات والمجتمعات المختلفة..والإعجاز اللّغويّ في القرآن الكريم، لاحتوائه على جميع لغات العرب وفي ذلك تحدٍّ لهم، بيان أنّ أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم هي أفضل الأمم عند الله تعالى، فلم يسبق أن نزل كتابٌ سماويٌّ يحاكي اللّغات المختلفة..
وأن القرآن الکريم في أعلی مســتويات الأدب اســتنادًا لإقرار الأدباء المســلمين وغيرهم، فإنه نُِّزل بين قوم مهتمين بالأدب والشعر والقصص كسوق عكاظ وغيرها.. من
وأهم فوائد هذا الکتاب الإلهي بتربيةالبشر إذ نجد فيه اختيار
أحسن المناهج التربوية مايأتي به القص من ضمنها.
کان القــص و دوره البارز في التربية ولايزال موضع اهتمام البشــر، وما تؤيده کتب القصص العديدة التي نجدها في
التراث الأدبي العالمي، فإن الأمهات کن ولايزلنّ يعلمنّ
أولادهن آداب الحياة الســليمة من خلال هذه القصص، وقد اهتم القرآن الکريم أيضًا
بآلية القصّ حيث قصّ علی متلقيه مصائر الأقوام الماضية ليتدبروا فيها ويأخذوها بعين
الاعتبار فيهتدوا بها إلی سبيل الرشاد.
هــذا ولا ننســی اختلاف الأدباء في اعتبار القصةالقرآنيةمــن القصةالفنية، فمنهم
مــن يعتقد أنــه لا تقع القصة القرآنية في إطار القصة الفنيــة إلا ما اتصف منه بالعناصر
الفنية للقصة ومعالجته الملحوظة لها، بينما يعتبر آخرون أي خبر من الأقوام الماضية في
القرآن الکريم قصة ما، تأتي ضمنها قصة أصحاب الفيل وأصحاب الأخدود منها..
والقصــة القرآنيــة عبارة عــن بيان الأحــداث الماضية بهدف الاعتبــار وتقصّي
الأحــداث التاريخية ودراســتها من مختلف الوجــوه بهدف ازدهار المواهب البشــرية
واهتداء الإنســان، فليس القرآن بصدد حکاية حادث تاريخي بشــکل کامل بل ينتقي
مــن الأحداث ما فيه فائدة في تحقيق هــدف الهداية..
تلتــزم القصة القرآنية طريقًا واحدًا من حيث الطول والقصر والإجمال والتفصيل..
فهناك القصة المفصلة: كما في قصة موســی (ع) في ســورة الأعراف، وقصة نوح (ع) في
ســورة هود.. وهناك القصة المجملة: كما في قصة نوح في سورة الأعراف، وقصة موسی(ع)
في ســورة هود، فلقد أجملت كل من الســورتين ما فصلته الأخری.كذلك سورة يونس
فصلت بعض التفصيل في قصة موسی (ع) وأجملت في قصة نوح (ع).
ويمکن تقسيمها من حيث الحجم علی الشکل التالي: قصص قصيرة جدًا (کقصةالنبي زکريــا والنبي أيوب (ع) و قصص قصيرة (قصص الأنبياء هود و صالح واسماعيل)..
وقصص متوسطةالحجم (قصص النبي داود والسيدة مريم) و قصص طويلة (النبي إبراهيم(ع)
والنبي سليمان)
وتمت الإشارة إلی مواصفات القصة القصيرة جدًا سابقًا.. وإذا کنا بصدد إثبات وجود
نمــاذج لجنس القصةالقصــيرة جدًا في القرآن فلابد من البحث عن نماذج تتصف بتلك الموصفات
فقمنا بعــرض النماذج علی هذه المعايير ومقارنتهــا بنموذج القصةالفنية والقصة القصيرة جدًا وقصر الحجم والحدث:
نجد بــين آيات القرآن کثيرًا من الآيات التي يمکن إطلاق عليهاعنوان القصة القصيرة جدًا
بســبب قصرها وقلةالکلمات الموظفة فيها، بحيث لايبلغ عدد أســطر إلى اثنين أو أقل
ومن اختلاف هــذه النماذج في ميزاتها الأدبية، فإنها ّکلها تشــترك في ميزة واحدة هي
قصرهــا وقلة عدد مفرداتها والمدة القصيرة التي نحتاج لمطالعتها. فمن هذا المنظور يمکن
إدراج کل هذه النماذج ضمن القصة القصيرة جدًا،
وبذلك ُنخرج ملخصات القصص القرآنية التي تتميز بقصر الحجم، والحدث، فنعتبره من نماذج هذا الجنس الأدبي..
وبدوافع عصر الســرعة المعاصرة لهذا الجنس، فلکل
شــيء بداية وبدايات الأمور يتجلی فيها الأســس ثم يــأتي دور التطوير..
ّوفي النماذج القرآنية لهــذا الجنس القصصي،
يجعلنا نتأمل في هذه الآيات التالية:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(البقرة: ٢٥٨)
تقص علينا هذه الآيات ما جری بين أحد ملوك بابل الذی أوتي من القدرة، ما
جعله يتألّه فحاج النبي إبراهيم(ع) الذي دعاه إلی طاعة االله ففشل في المحاجة؛
قصها في ٣٨ كلمة..
ُ في فترة زمنية قصيرة ومکان محدود ولاتســتغرق الأقوال إلا دقائق قليلة جدًا..
وايضًا فإننا في هذه الآية إزاء قصة قرآنية قصيرة جدًا:
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
[سورة البقرة 259]
هــذه قصة النبيّ عزير؛ حيث مر بمدينة مدمرة خالية من أهلها تعجب كيف يحيّ الله الأموات
َ فمات بإذن االله لمائة عام ثم أحيِي
ليکون للناس شــهيدًا ويحصل له العلم بقدرة االله تعالی. تمّ قص الحادث في ٦٨
کلمــة وعلی الرغم من عرقلة قضية الزمن فيــه حيث طال من جانب لمئة عام
وبــدا لحظات من جانب آخر، فإننا نظنها قصــة قرآنية قصيرة جدًا، إذ الزمان
قضية نسبية وبدت الفترة الزمنية علی شخصية القصة لحظات وحادث الإحياء
قد حصل بعد مضي الأعوام المائة وکان في طرفة عين..
ايضا هذه القصة القصيرة جدًا جاءت في آية واحدة:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)
[سورة يس 78]
تشــير هذه الآيةإلی قصةالکافر الذي ّ اســتدل ببلی العظام علی رفض البعث
والحشر، في ١٢ کلمة واعتبرناها قصة قصيرة جدًا استنادًا إلی قصرها الشديد،
وتعبيرها عن حادث حصل خلال دقائق فضلا عن حضور عناصر القصة فيها.
وهناك أمثلة كثيرة في النص القرآني: مثل سورة يوسف
استهل الله السورة الكريمة معلنا لها بالقصة إذ قال:
أعوذ بالله العظيم من الشيطان
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ)نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر، والحكم والفوائد التي تصلح للدين والدنيا.. وكان متن القصة :
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
بآية واحدة كانت القصة كاملة ومحورها الحسد والغيرة
والافتراء على الناس وطمس الحق.. لأن يعقوب عليه السلام أدرك القصة كلها من هذه الرؤيا وقرأ ماذا سيجري لولده ومايؤل عليه في النهاية من عز وجاه ونصر.. أي قرأها كما الآن يقرأ الأديب الناقد نص ققج ويغوص في سبره ويخرج مكنوناته ولله المثل الأعلى..
مما ندرك أن القصة هي تصوير للسلوك الأنساني الذي يعرب عن قيم اجتماعية معينة يحكي حدثًا محدودًا جدًا من خلال مضامين عظيمة نجدها من خلال دراسة القرآن الكريم.. وفي الوقت نفسه يضم قصصًا في أحجام مختلفة، يترواح طولها بين سطور وصفحات، كمانجد بينها مالا يتعدى بضعة أسطر؛ حيث يتيح لدراستها على ضوء معايير القصة القصيرة جدًا التي تتصف بقصر الحجم كميزة أساسية لها وإذا أكدت الدراسات صحة اعتبار هذه النماذج القرآنية القصيرة جدًا في إطار هذا الجنس الأدبي؛ ونرفض القول الذي يقول أن جنس القصة القصيرة جدًا من إبداع الأدب الغربي المعاصر..
و على أنّ منشأ القصة القصيرة جدًا يعود إلى الغرب، من خلال قصّة كتبها الرّوائيّ” أرنست همنغواي سنة1925 م، وهي مؤلّفة من ستِّ كلمات: (“للبيع… حذاء طفل لم يلبس قط”.).
نعم هذا دليل بدايتها في الغرب، لكن نحن العرب سبقناهم بعصور ألا وهو القرآن الكريم..
وفي الأدب العربي المعاصر عادت تزهو فانكبّ البعض منهم على دراستها مقاربةً وتحليلًا، تفكيكًا وتركيبًا، ومقارنة بالأجناس الأدبيّة الأخرى خصوصًا القصّة القصيرة، وبعد هذه المناكفات حاول النّقّاد أن يخرجوا بإطار موحّد .ذلك أنَّ القصَّة القصيرة جدًا بدأت تفرض نفسها، وأصبح لها روّادها وعشّاقها، وكثرت الإصدارات لكتّاب امتهنوا وعشقوا هذا النّوع الأدبيّ الدّقيق والصّعب، الذي هو أشبه بحبل يتدلّى في فضاء شاسع يحملك إلى عوالمَ متنوّعة ومختلفة، شرط ألا تزلَّ قدمك وتسقط..
وأذكر منهم يوسف حطيني الذي يرى أنّ هذا الجنس الأدبيّ له جذور في تراثنا العربيّ، ساعدت على تجلّي هذا الفنّ وبلورته. ويقول د . مسلك ميمون في كتابه ما قبل السّر: “إنَّ القصّة القصيرة جدًا فنٌّ أصيل، ما دام له جذور في تراثنا وثقافتنا وأدبنا الشّفهيّ والمكتوب والأمر ليس من باب المزايدات الأبستومولوجيّة، بل هي حقيقة دامغة، وصلت إلى حدِّ مستوى الاجتهاد التّعريفيِّ، يعرّفها محمد مينو بما يأتي:
القصّة القصيرة جدًّا حدث خاطف لبوسُهُ لغة شعريّة مرهفة وعنصره الدّهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة، وهي قصٌّ مختزلٌ وامضٌ يحوّل عناصر القصّة من شخصيّات، وأحداث، وزمان ومكان إلى مجرّدأطياف ويستمدّ مشروعيّته من أشكال القصِّ القديم كالنّادرة والطّرفة والنّكتة، فالشّكلُ قديمٌ ويرجع إلى تلك البداياتِ وربّما يعود إلى الرّواد الأوائل (خواطر، محمود تيمور الملحقة بمجموعته القصصيّة (ما تراه العين سنة1922) ويعود الكاتب ليؤكّد عروبيّة هذا الفنّ، وأنّ هذا الفنَّ أورق وأزهر نصوصًا قصيرة جدًا عند نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة)، وما كتبه يوسف إدريس، وزكريّا تامر..
وان نجيب محفوظ هو اول كاتب عربي كتب العديد من المنمنمات القصصية ، ولم يدر بخلده أن يقول أنه ابتدع جنسًا أدبيًا جديدًا ، مع أن تلك المنمنمات ترتفع بمستواها الفكري والفني الى مصاف اجمل ما كتب في هذا النمط..
الملخص من هذا المبحث أردت القول أن القصة القصيرة جدًا ليس حداثوية وإنما هي كانت من أصل القرآن الكريم واللغة العربية والأدباء العرب هم الرعيل الأول في هذا الأدب الوجيز..