لطفية الدليمي... البلابل لاتنام في الصيف
الكتابة هي سفر إلى أماكن مجهولة و معلومة على السواء، محاولة مختلفة لخلق العالم أكثر من مرّة، وكل ذلك بمثابة تحدٍ للحدود القسرية او بالأحرى فعل الذات الحرّة لإستنهاض روح مختلفة وتحرير ملكاتها من ركب السائد المتبلّد.
هكذا تبدأ حكاية الكاتب وماتلبث أن تتشعّب وتتشابك بحكايات الناس والأرض وبمحددات الأديان والأعراف، قصة مثخنة بالحكايات المماثلة، وعلى الكاتب أن يعيش المعنى الذي يسكنه كي يمتلك القدرة للمضي على الحواف الرفيعة للمتناقضات.
هكذا تتحول الغايات المثلى لمحض إجتراحات وجلة، حالة من التخلّي عن المسلمات لصنع الزمن والعالم على بدايات ولع نحّات إغريقي بالمجسم الشمعي الذي أبتكره يجدر بالفنان بعدها أن يستفيق من الوتهان اللانهائي ويغدو شخصاً سوياً.
لطفية الدليمي ربما جاءت من فيض المكان، من جماليات الشكل الجاهز للطبيعة المتزنة المفعمة بإستدراجات حانية من أغاني قاطفي التمر والصيادين ومن ترنيمات الحاصدات الملفوحات بذهب الشموس وشذا القمح، فالجمال المحدود يظل عند البعض بوابة أثيرة للولوج بعيداً عن الرؤية العابرة، فخدعة الطبيعة غواية، والفن يغدو وسيلة الإنسان لتجاوزها، فطفلة تنشأ في واحدة من مدن الحضارة البابلية، وتعيش أسفار طفولتها على ضفاف (ديالى) الخصب، بلا ريب ستحتاج للكثير للخروج من السياق الخلّاب للطبيعة بالإنتماء لها عبر إندماج ذاتي فريد.
هكذا غدت تفاصيل (بهرز) سمات إنسانية كطور غامض يتراكم بذهن طري، إرتدادات من حملقات لقبيلة من البلابل وهي تقطر ماء الجداول بداخل التين السكري، تتحول لغاية وجودية لإنصاف حضارة عتيدة تليدة، أشبه بحفر إنتماء روحي خالد وغير خادع في عمق الأشياء الغير ملموسة بنبرة شعرية مميزة.
من هنا بدأت لطفية وتماهت بالمكان في واحدة من أشواق الإنسان لسبر الجذور العتيقة بالمزيد من الإخلاص لخلجات الذات، وغدت الغاية أكبر من الدهشة الاولى، وتحولت ومضات في عيني صبية لاتفتأ في تامل دوران البلابل لصنع الخمر الصيفي لطاقة أشمل، وبات الدأب الحثيث واللامتواني لدودة الحرير منهجاً وأسلوباً للمعرفة الخالصة.
رحلة الإنتماء للمفارقات بدأت مع صبية مهدورة الروح بين إلحاد الأب بحسب مايصفه المتدينون والحنين لأماسي الذكر والمديح ونقر الدفوف، وبين الإنغمار بنواح طائر الشقراق والإنتماء لعشتار التي كسرت جناحه.
وبدأت رحلة الكتابة مع السومرية، كطاقة سرية لملكات شتى، تعلّم الموسيقى والرسم والتزود بعلم الفلك والتاريخ والكثير من المعارف والعلوم.
عطاء بلا حدود على مدى أربعة عقود، إنضباط إبداعي وإشتغال كثيف على الزمن( عزلة إختارية)، والنأي عن المهرجانات والمنصات الإعلامية والمسابقات، باتت ابرز سمات الدليمي، طريقة تشي وبشكل كبير بنوعية أدبية ثرية قلّما تتحقق، أخذت من درويس ليسنغ بإحداث الفارق في الكتابة النسوية شبهاً، لكنها تجاوزت ذلك وباتت فارقاً معرفياً في إثراء السارد والمثقف العربي بكل مايحتاجه من مفاهيم وثقافة روائية وادبية مواكبة لكل ما يتجدد في بقاع العالم من أصوات ونظريات.
في كتابها (عصيان الوصايا) تحلّق بنا في عالم سردي واسع، فيسيفساء كونية تتضافر في التأكيد على فردانية المبدع وخصوصيتة، من مناهضة آذر نفيسي للإستبداد إلى المخيلة السحرية لإيزابيل الليندي وطريقتها في إنتقاء شخصياتها وحكاياتها من الصحافة، تتواتر الرغبة لإستلهام الأثر بمحاولة دؤوبة للمبدع لخلق نظريته الخاصة بالكتابة، حينها تغدو كتابته خالية من وشايات اللاوعي كمكنون حبيس بمؤثرات القراءة والتي ماتلبث ان تكبل مخيلته.
أشبه بوصايا ممّن خبرت الحياة بالسفر بين الأصقاع، من كاتبة وروائية ومترجمة أخلصت لنفسها أولاً كأنثى حاضرة في المشهد الثقافي، ومضت لأبعد من هذا العهد النوعي بوصولها لذرى النتاج المعرفي والموسوعي الدافئ لأجيال عربية قادمة.