المحطة الأخيرة
عندما طلب رؤيتي وهو في المستشفى اعترتني حالة من التّشتت، الذّهول، وتلبسني الخوف فأصبحت جثة ناطقة!
كنت قد تركته في أشد أيامه قسوة، ووسط أعتى الحروب التي يخوضها البشر على الإطلاق، فعدوّه أباد الملايين، ودمّر الآلاف وتركهم على قارعة الأمل بأجساد منهكة خارت قواها من أسلحته الفتّاكة.
أحبّني بشدة وبادلته الشّدة ذاتها من الحب، كان منتهى العشق عسل عينيه، وقمة الرجولة رأسه اللامعة تحت أشعة الشمس إذا نزع القبعة عنها.
أحبه والداي؛ فقد كان ذا نخوة ولم يرضى أن يستر علاقتنا؛ بل حضر إلى منزلي مع أخٍ يكبره وطلب من أبي أن يسمح له بخطبتي في أقرب وقت يناسبه، رغم صغر سنه إلا أنه تميّز بحنكة وفطنة جعلاه محط أنظار الكثيرين واحترامهم من أقرانه وكبار حيينا، لم يكن متعلما؛ لكنه ذكي.
في حي العصافير، تغدو الحكايات وتروح تحت ظلال أشجار الكافور الفارعة الطول الشامخة، وتتسلل بين أغصان شجر الزيتون العتيقة، وعلى وقع خرير مياه واد "المعدن"، يدفعها رذاذ البحر الهائج على شاطئ "لافيجي الكبرى"، وفي الليل تؤنس وحشة البوم مشاكسات بعض الذئاب في أعالي غابة "بوزريعة" ومطاردات بعض الكلاب للخنازير "أكرمكم الله".
في هذا الحي شهدْتُ مولدي ووفاتي، وبيدي دفنت رفّاتي!
مرّت الأيام بسرعة وتمكن فارسي "هشام" من تجهيز بيت صغير بمحاذاة منزل أبيه، ليكون عشا لنا معا، وقبل قدومه لخطبتي بأيام قليلة سقط مغشيا عليه في مقر عمله بالميناء، نقل على جناح صقر إلى المشفى، وبعد ساعات صعقتني الفاجعة!
هاتفتُ أخته:
-نعم دلال أنا أسمعك، أخبريني ماهي نتائج التحاليل والصور الإشعاعية؟
بنبرة خافتة تكاد تكون نحيبا صامتا:
--ليست مطمْئنة، "سهام"! تماسكي أرجوكِ.
-كله من عند الله أخبريني هيا؟
حاولت أن أكون أكثر صمودا، جمد كل شيء إلاّ مضغتي تدحرجت لا أدري إلى أين، لكنني لم أعد أسمع دقاتها!
--ورم في دماغه، قالوا أنّه خبيث؟
- لا إله إلا أنت، اللَّهم أجرني في مصي...
تهاوت قامتي، ربما على الأريكة، أو على الأرض الباردة، لا أدري!
تتحسس أمي وجهي بيدها وتلتقط الهاتف من يدي لتكمل المكالمة.
أصبحت صورة أمي كبيرة وهي تبتعد ثم صارت تتعرج، ولا أسمع إلا طنينا حادا وصدى لكلمة "ورم" ثم بصوت بعيد، "قالوا أنه خبيث" "قالوا أنه خبيث".
توالت أيام كانت بالمرصاد لكل ضحكاتنا وأفراحنا السّابقة، فقد نشرت السواد وألقت تعاويذ البكاء.
لم يسمح أبي بزيارتي للمشفى إلا مرّة واحدة، فلم أكن معه في كل تلك الأوقات العصيبة، ولم أستطع إطعامه ولا الاهتمام به، كما أرادني دائما زوجة!
في حيينا لا يُعترف بالحب قبل الزواج، ولا تطيل البنت المكوث في بيت أهلها، ولا ترتاد الجامعة إلا نادرا!
تحدثت أمي مع أخته، وأعلمتها أنهم سيزوجونني!
لم يكن لدي علم بما يجري، فلا هَمَّ لي إلا أن يعود "هشام" لسابق عهده وأرى إشراقة ثغره مرة أخرى.
بعد سماعه للخبر وهو في صرح معركته؛ طرق بابنا مرة أخرى، لكن هذه المرة بصفة رسمية طالبا يدي للزواج وفي أقرب وقت.
رفض والدي؛ وأمي عزّزت رأيه:
-ستترمل بعمر الزهور، من يُعيلها!؟
تكلمتُ قلت أنّه أحقّ بي من غيره، وأنا راضية به على حاله، ألجموا صرخاتي وكبتوا أنّاتي وراحت هباء منثورا توسلاتي...
تزوّج من أخرى وتماثل للشفاء، ووصلني خبر ميلاد ابنته الثانية "أسيل"، وأنا طريحة الفراش أصارع نفس عدوّه بعد أن رُزقت ب "نرجس" و "حسام"، لم يغادر العلقم حلقومي، ولم تبرُد وجنتاي يوما؛ فدموع فراقه تكويني دون أن تنساب حتى.
تداولت الأيام العذابات بيننا، وأذاقتنا من نفس الكؤوس وتحالفت كل الأيدي على ضربنا، فرقتنا الأقدار، لكن المسافات كانت رحيمة بنا، فكان زوجي جارا لنا، وظل طيف حبيبي يسامرني، وريحه تضرب أشرعتي.
من الثامن بعد الربيع الأول إلى الثامن بعد الربيع الثاني، مرّت صاخبة بالوجع، تتقلب فيها الحسرة بين الساعات، وتدق الخيبات كل الدقائق...
لم أكن صاحبة قرار، ولم أكن شجاعة بقدر محبتي له؛ فطالتني الأوامر وطمستني النواهي، فلم أستطع صبرا على ما لم أحط به خُبرا، لم يكن استسلاما بقدر ما كان كُرها...
صمتت كل الحروف بداخلي وثارت مدامعي لم تهدأ يوما ولو في أواخر الليل...
اليوم جئتك تاركة خلفي كل أعراف حيينا، ضاربة في عرض الحائط سخط والدي، جئت مع والدتي، نصف امرأة، تساقطت أوراقي وذبلت أغصاني، ويبست كل البتلات وتاه عبقها في دوامة الأوجاع، اعترفوا أخيرا بديننا!
جلستُ بجانبه، لقد اسمرّ وجهه أكثر، وبهتت ملامحه؛ وظل باسقا ذاك البريق في عينيه، فتحهما بصعوبة، وهو يحاول قول شيء وقد تيبست شفتاه فصارتا كقشرة غصن ألقاه الريح أرضا:
-كنت أعلم أنكِ لن تخذليني...
قالها بصوت كالهمس وابتسمت عيناه!
-سمعت أنّك مريضة، لا تيأسي، وسيغادرك، لا يعاشر الأمل، أقسم لكِ، لقد فعلها مرة أخرى معي، تسلل من أحد المنافذ حتما!
وضعت يدي على فمه وانفلتت كل الدموع كأنها جنود في يوم نصر.
لم أجد ما أقوله إلا الاعتذار:
-آسفة! آسفة على كل ثانية قضيتَها بدوني، آسفة على كل ألم سكن جسدك...
ضغط على أصبعي مشيرا إلي أن أصمت.
-دعوتكِ لأرى وجهك فقط، ولو لآخر مرة.
كانت زيارة طويلة، ملأتُ عيناي بضحكته، واسكنت رائحته بتجاويف الروح!
في تلك الليلة ودعني آخر مرة كما قالها، فهو لم يكذب علي يوما، صادقني حتى برحيله الأخير؛ تمنيت لو أنه خان وعده هذا، وأخلف ميعاده.
أُدخلت "سهام" إلى المستشفى بعد تدهور حالتها، وبعد خمسة عشر يوما؛ لم تصمد!
----------------
قصة واقعية لعائلتين من نفس الحي، مر على وفاة البطلين ١٥ سنة، صار الأولاد بعمر العشرينات.
زوجة هشام تهتم بأبنائها، تعيش مع عائلة زوجها الراحل.
وزوج سهام يربي طفليه، مع آخر من زوجة ثانية.
"طبعا غيرتُ أسماء الشخصيات" فهي للدلالة فقط.