-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

الشاي وولع العراقيين به... بقلم/ د. صالح العطوان الحيالي -العراق

الشاي وولع العراقيين به... بقلم/  د. صالح العطوان الحيالي -العراق
اكثر ما تشتهر به كل العوائل والبيوت العراقيه هو( الشاي) يعدّ العراقيون الشاي بطريقة تختلف عن الآخرين، ويحبونه، ويغنون له وهناك أغنية مشهورة تمجده، وترفع من شأنه: خدري الجاي خدري. عيوني لمن أخدره.
وهي تحكي قصة حبيب يطلب من حبيبته إعداد الشاي، فيقول لها: أعدي الشاي ياعيني. فتجيبه الحبيبة: يا عيني لمن أعدّه؟
أصبح للشاي قيمة اجتماعية في الحياة اليومية العراقيه، به تقاس درجة احترام وتقديرأي ضيف أو زائر مهما كان مستوى ونوع هذا الزائر سواء في البيت أو في محل العمل أو حتي في الدائرة الرسمية وأصبح عدم تقديم (استكان شاي) للضيف أو الزائر يعد ذلك نقصاً في الحفاوة والترحيب بهذا الضيف او الزائر..
و بدأت عادة شرب الشاي تتأًصل لدي العراقيين منذ الإحتلال البريطاني كما ذكرنا من خلال الهنود الذين كانو في جيش الاحتلال البريطاني وتناولهم المفرط للشاي وهم يزرعون شجرتهوينتجونه وأخذ العراقيون عنهم هذا التقليد الممتع... فجلسات السمر لا تحلو إلا بالشاي العراقي ،وتفننت العوائل العراقية في تهيئة اجواء شرب الشاي خصوصا في فصل الشتاء حين تجتمع العائلةالعراقيه حول (السماور) الذي ترافقه صينية الشاي في ( لمة) عائلية جميلة.. و يدور ( الشكردان) بين الجميع ليأخذ كل واحدحاجته منه .. وال (شكردان) هو قارورة انيقه تصنع من الزجاج الملون والمنقوش علي شكل إناء أو من المعدن على شكل(كاسة) ترتفع علي عمود زجاجي يتصل بقاعدة زجاجية أيضاً، قبل دخول (الستيل والستانلس) حياتنا الاجتماعية حيث أخذت تصنع منه عدة ولوازم الشاي من (قوري وكتلي وسماور وصينية وشكردان)..
وعندما جاء الهنود مع الإحتلال الأول، كانوا يطلقون علي قدح الشاي أسم (بيالة) وهي تسمية (هندية - آرية) بمعني (قدح) أو (كوب) ولا زالت مناطق شمال العراق ( الاكراد) تسمي استكان الشاي (بيالة). أما كلمة (استكان) فأصلها إنكليزي، حيث أن الجنود البريطانيين الذين كانوا في الهند أيام الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية عندما كانوا يعودون باجازاتهم إلي بريطانية يأخذون معهم (بيالة) الشاي الهندية أي قدح الشاي، ولأن الإنكليز كانوا يتناولون الشاي بـ(الكوب) وهو فنجان زجاجي كبير يوضع في طبق من ذات اللون والحجم.. وتمييزاً لقدح الشاي الهندي (البيالة) عن (الكوب) الإنكليزي، أطلق الجنود البريطانيون العائدون في اجازاتهم علي القدح أسم (استكان) وهي تسمية من ثلاثة مقاطع تشرح أصل الإناء أو القدح : East شرق - Tea شاي -Can إناء ( East-tea-can) أي قدح الشاي الشرقي .... وهكذا جاء الجنود الإنكليز بهذه اللفظة معهم إلي العراق، وتعلم العراقيون على هذا اللفظ (استكان) للسهولة والدلالة وأصبح ال( استكان) هو العلامة الفارقه والمميزه للشاي العراقي الاصيل حتى بعد انتشار( الكوب) بشكل واسع في العراق .. واشتهرت حرفة صنع ( الاستكان) في العراق وهي حرفة يدوية مئة بالمئة كان يمارسها بعض المحترفين بمهارة كبيره في الالوان والنقوش والرسم عليها وتذهيبها بالوان ذهبية جميلة جدا خصوصا ( ماعون) الاستكان الذي كان يصنع من مادة مشهورة في العراق تسمى ( الفرفوري) واشتهرت خلال فترة الحكم الملكي الهاشمي في العراق عادة رسم صورة ملوك العراق على ( ماعون الاستكان) وظلت هذه العاده حتى في المرحلة الجمهورية الاولى في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم .. وامتدت هذه الصناعه الى( القوري) نفسه من الفرفوري ايضا بالوان واشكال وتذهيبات وصور متعدده ..
ومع تغلغل ( الشاي ) في حياة العراقيين فقد انتشرت المقاهي الشعبيه ( الكهاوي) في كل مكان في وقت لم يكن (التلفزيون والراديو) موجودا أو معروفا انذاك الا على نطاقات ضيقة جدا حين استوردت شركة ( باي – PYE) اعداد قليلة من الراديو الذي كان حجمه كبيرا يقارب نصف حجم التلفزيون الحالي .. واشتهرت المقاهي( الكهاوي) العراقيه بتجمع العراقيين فيها نهارا اما في المساء فكانت تشهد أمسيات الاغاني التراثيه والفولكلوريه القديمه وخصوصا ما يعرف ب ( المقامات ) التي كان من ابرز واشهر قراء المقامات في العراق والعالم العربي هو المرحوم ( الملا عثمان الموصلي ) في الموصل والمرحوم الشهير ( رشيد القندرجي) ثم الراحل محمد القبانجي والراحل يوسف عمر ...
وأشتهر الشاي العراقي بطريقة اعداده على الفحم مع اضافة ( الهيل) وعملية إعداد الشاي تسمى (تخدير الشاي) أي غليه وطبخه حتي ينضج على نار هادئه وتفوح رائحته ومن هنا جاءت أغنية (خدري الجاي خدري) وشاي الفحم يدل علي الأصالة والذوق وهو مفضل مثل خبز التنور..، والشاي أنواع، منها ما هو جيد ومنها ما هو ردئ، ويتحسن الشاي بالخلط، أي بخلط عدة أنواع، وكان لوزارة التجارة في بغداد معمل لخلط الشاي..، ولا يستسيغ أهلنا في العراق تناول الشاي المعلب بعبوات صغيرة (شاي أبو الخيط) بينما يفضلون شاي سيلان الخشن ذا الرائحة الزكية.
وكان للأدباء في بغداد في الاربعينيات والخمسينيات مقهى في الشارع الفرعي الواصل بين شارعي (السعدون) (وأبو نؤاس) يسمي (كهوة شاي معطر) وللاسف الشديد لم يتم الحفاظ على تراثية هذا المقهى وتغيرا معالمه تماما ..
وفي الاربعينيات والخمسينيات كان يتم شرب الشاي بطريقة (الدشلمة) أو بطريقـــة (الشكرلمة). وطريقة (الدشلمة) تتلخص في أن يتم تناول الشاي بدون سكر مذاب، حيث يقدم (استكان) الشاي المر علي بدون ملعقة !! بينما يتم تناول السكر من (الشكردان) الذي يحتوي علي قطع من السكر المكعبات أو من قطع (شكر الكله) كما كان يسمى قديما الذي عرف فيما بعد ب ( سكر مكعبات) فيعمد الشارب إلي تناول قطعة سكر يضعها تحت لسانه ويبقي لفترة طويلة يرشف رشفة من الشاي المر بينما هو يمتص ببطئ قطعة السكر تحت لسانه. وهذه الطريقة مازالت قائمة في بعض مدن وقري شمال العراق. وعملية تكسير قالب (الشكرلمة) تقوم بها ربة البيت بعناية ودقة حيث يجب أن تكون القطع منتظمة غير مفتتة لتصلح تحت اللسان، وهذه العملية متممة لطقوس الشاي وأدواتها كانت فأس صغير وسندان مثله كان يباع في الموصل أولا ثم انتقل الى بغداد في سوق الصفافير وفي سوف الهرج، والفأس تكون قبضته عادة من خشب عادي أو منقوش يدل علي مستوي العائلة، ويسمي (دقاقة) وتستخدم العوائل الفقيرة فؤوساً عادية. وقد دخلت هذه الفأس (الدقاقة) في إحدي روايات (أجاثا كريستي) البوليسية التي تحولت إلي فلم، حيث كان المخرج العراقي محمد شكري جميل يعمل مصوراً سينمائياً في (شركة نفط العراق) مطلع الخمسينات وكانت الشركة تنتج فلماً دعائياً دورياً بعنوان (العراق اليوم) يعرض في جميع دور السينما العراقية، وصادف أن التقت أجاثا كريستي محمد شكري جميل وهو يصور أحد هذه الأفلام فأعجبت بطريقته في العمل وقالت أنه ينتظره مستقبل ناجح في هذه الصنعة، ورداً علي هذه الملاحظة قام محمد شكري جميل بإهداء أجاثا (طخم شاي) كان من ضمنه (دقاقة) أي فأس قبضتها من خشب الأبنوس المطعم وكانت تلك تحفة فنية أعجبت بها أجاثا كريستي واصطحبتها معها إلي إنكلترا وأدخلت (الدقاقة) في إحدي رواياتها حيث ترتكب بها جريمة قتل، وقد ظهرت نفس (الدقاقة) في الفلم، وكانت أجاثا كريستي تصاحب زوجها عالم الآثار (ماكس مالوان) في الموصل (النمرود) وشمال العراق أثناء عمل بعثة التنقيب تلك.
أما طريقة(الشكرلمة) فتتم عبر تناول استكان الشاي المذاب فيه مسحوق السكر أو قطع من سكر المكعبات، وهذه الطريقة هي المألوفة اليوم والغالبة في المقاهي والبيوت.
وأشتهرت عن الشاي اغاني كثيره في التراث والفلكلور الغنائي العراقي ومنها أغنية فرقة ( البسته) العراقي عام 1951 (خدري الجاي خدري) والحقيقة أن هـــذه (ألبسته) العراقية وهي أقدم من فرقة الإنشاد حيث غنتها في الثلاثينات المطربة العراقيه الراحله (زكية جورج) وكذلك غنتها المطربه الراحله (أنطوانيت اسكندر) عام 1942ثم غنتها ايضا المطربه الكبيره الراحله ( سليمه مراد)...
وكلمات هذه الاغنيه تقول ..
خـدري الجـاي خـــدري عيونـي المــن اخــــدره
مالـــج يابــــعـــد الـــــروح دومـــــــج مكـــــدره
بعــد هــواي يــــانـــاس المــــن انــــه اصبــــــه
محـد بعــــدعينـــــــاه يستاهـــل يشــــــــــــــربه
أحـلـف ماأخـــــدره ولا اكــــعـــــــــد اكــــبـــــالـه
الا يجــــي المحــــبوب واتهـــنه بجــــــمــــــاله
اي والله وحيـــــاتك ابدا مــــ اخــــــــــــــــــدره
واخـــذ فـــــاس بيدي للقـــــوري اكســــــــــــره
كما اشتهرت أغنية أخري للمطرب الريفي الراحل (حضيري أبو عزيز ) التي شاعت وذاعت أثناء الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 حين عز الشاي وفقد من الأسواق وأنقطع استيراده بسب ظروف الحرب العلميه الثانيه ، وفي تلك الأيام العصيبة غني المطرب الريفي أغنية تقول كلماتها :
دمضي العريضة
أمضي العريضة
عيني يا أبو التموين
أمضي العريضة
الحلوة علي الجاي
طاحت مريضة
ومن الطريف أن الإنكليز يتناولون (شاي العصر) في حديقة البيت أو علي الشرفة...، وقد أخذنا منهم هذه العادة ...
وهناك شاعر موصلي "ذو النون شهاب" وصفه بجملة رائعة فقال: الشاي خمر الكادحين.
كان أحد شيوخ منطقة الفرات الأوسط يحب الشاي وعندما سئل لماذا تحبه: قال أحبه لأن لونه أحمر جميل. ولأنه مذاقه حلو جميل. ولأنه موضوع في إناء جميل.
ولا أعتقد أن شعباً آخر غير العراقيين يعدّونه بطريقة فريدة مثلهم قط، ورأيت الكثير ممن زاروا العراق فبقي طعم الشاي العراقي على ألسنتهم سنواتٍ طوال. فهم لا يقدمونه "فطيراً" خفيفاً كالسوريين واللبنانيين وأهل الخليج، ولا عميق اللون يؤكسده الغلي الطويل كالمصريين والسودانيين، بل وسطاً رائقاً صافياً مخمراً بتركه بضع دقائق قريباً من نار خفيفة جداً عند ذاك يبدو للشاي طعم رائق حبيب لا مثيل له. وربما يعده الشعب المغربي وحده على طريقة مماثلة للعراقيين لكنهم لا يتركونه مدة كافية كي يتخمر بعيداً عن النار. ولحب العراقيين الشاي احتفظوا باسمه واسم أدواته الأجنبية كلها كما وردت لهم من غير تعريب. فهو يقدم بزجاجة يطلقون عليها الإستكان. فما أصل هذه اللفظة؟
لفظة استكان تشبه لفظة التمن. فكل العرب يستعملون كلمة قدح أو كأس للزجاجة التي يصّب فيها الشاي إلا العراقيين فهم يستعلمون كلمة استكان ولا يعلم معظمهم من أين أتت؟
قبل مئات السنين كان الكأس الزجاجي الصغير يصنع في روسيا، في منطقة تسمى استراخان. وكان يتواجد في المدينة نفسها معمل للسكر يطلق عليه العراقيون "القند" وعندما جاء الشاي في بداية القرن العشرين إلى العراق، استورد العراقيون السكر من استراخان لاستعماله مع الشاي، ووجدوا تلك الأقداح الزجاجية الجميلة فجلبوها هي وأطباقاً صغيرة جميلة جداً توضع فيها الاستكان مع السكر، ثم جلبوا معها من نفس المكان "السماور" فاتخذه الأغنياء وسيلة لإعداد الشاي، أما الطبقة الوسطى، فكانت تستعمل إنائين لإعداد الشاي، واحداً لغلي الماء أبقوا لفظها الإنكليزي كما هو "الكتلي"، والثاني لتحضير الشاي ويجب أن يكون من الفخار الصيني، ويطلقون عليه "قوري الشاي" وهي لفظة صينية محرفة عن اسم إمبراطور صيني كانت تلك القوارير تستورد في زمانه، بينما يطلق العرب جميعهم لفظتين عربيتين على ذلك الإناء إحداهما: إبريق الشاي. والثانية براد الشاي.
وهكذا نرى أن العراقيين ينظرون إلى الجاي نظرة أشبه بالتقديس، وتغيير الاسم نوع من التزييف، ولما كان المقدس لا يقبل التزييف فلذا أبقوا على الأسماء الأجنبية كما هي عليه احتراماً وتقديساً لهذا الشراب اللذيذ. (ومن نافلة القول ذكر أنهم يلفظون كلمة جاي كالصينين بالجيم لا بالشين كبقية العرب)
لذلك بقي كل ما يتعلق بالجاي على اسمه العجمي: الجاي "صينية" بدل الشاي. السماور "روسية" الكتلي إنكليزية بدل براد. القوري صينية بدل إبريق. القند فارسية بدل سكّر. الخاشوقة. فارسية أو تركية بدل ملعقة الشاي الصغيرة. لكنهم احتفظوا بلفظة عربية واحدة من أدوات الجاي مداهنة كي لا يغضبوا لغتهم الأم "اللغة العربية" وهي لفظة الصحن الذي يوضع فيه الاستكان، فأبقوها عربية: صحن.

عن محرر المقال

Unknown

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية